أ.د زهير بن عبدالله الشهري
مدير مركز بحوث التأسيس والتاريخ الوطني بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
إن المتتبع لحركة ومسارات تاريخ الدولة السعوديَّة منذ تأسيسها 1139هـ/1727م، وخلال ما يقارب ثلاثمائة عام يجد أن حركة هذا التاريخ في جذوره وأسسه ومساراته قد ارتبطت بإجراءات وخطوات عمليَّة – وذات فاعلية تاريخية منجزة سياسيًّا وعسكريًّا وثقافيًّا وإداريًّا- كانت مؤسَسَة ومرتبطة بأهدافٍ ذات قيمٍ مثلت طاقة فكريَّة ومعنويَّة دافعة لبقيَّة خطوات التوحيد والبناء حتى وقتنا الحاضر وقد ارتبطت هذه القيم في عمومها بخدمة الدين والمقدسات وتحقيق الأمن والعدل والتنمية المستدامة.
ويبرهن على هذه الحقائق التاريخية أنه وقبيل قيام الدولة السعودية الأولى في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري -الثامن عشر الميلادي كان يسود الجزيرة العربية عمومًا ونجد على وجه الخصوص التفكك والتشرذم السياسي والانتماءات والولاءات العديدة في ظل تعدد القوى والإمارات والمشيخات ، فنجد على سبيل المثال كانت متعددة القوى المتصارعة والمتناحرة. وهذا الاتجاه الصانع للتاريخ في مشروع الدولة السعودية بأهدافه وقيمه وتطبيقاته العملية قد أوجد القناعة الجمعية لدى المجتمع في الجزيرة العربية بأهمية الدولة والأسرة الحاكمة في تحقيق احتياجاته الفردية والجمعية حاضرًا ومستقبلاً، فعلى الرغم من نهاية الدولة السعودية الأولى فإن أفكار ومبادئ وقيم التأسيس والإنجاز في مرحلة التأسيس والدولة السعودية الأولى لم تنقطع في فكر وذهنية المجتمع، فظلت إنجازات وقيم الدولة السعودية الأولى راسخة وحية في ذاكرة ونفوس الأهالي. يؤكد هذا الأمر ما نبأ به مانجان بعد نهاية الدولة السعودية الأولى حين قال: «أن أسرة آل سعود قد تفرقت مع الفوضى وما زال هناك أساس خصب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد».
في مفاهيم النظريَّات السياسيَّة والاستراتيجيَّة المرتبطة بتأسيس وبناء الدول يمكن القول: إن حالة بناء الدولة السعوديَّة تجربةٌ خاصَّةٌ واستثنائيَّة منذ عام 1139هـ/1727م وحتى وقتنا الحاضر، وتبرز هذه الحالة الخاصة بشكل واضح في تجربة الدولة السعوديَّة الثالثة في عهد الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه)، والتي مثلت أوج التجربة ونضجها سياسيًّا وحضاريًّا، ويصعب مقارنتها بتجربة تاريخيَّة عالميَّة في العصر الحديث من جانبين الأول: أنها اعتمدت في كافة مقومات تأسيسها وبنائها على أبنائها وإمكاناتها الداخليَّة، بشكل كامل بل مطلق؛ فالدولة منذ الإرهاصات الأولى وحتى قيام الدولة السعوديَّة الأولى والثانية والثالثة لم تعتمد أو تربط تأسيسها ووجودها على قوىً خارجيَّة ولم تقع تحت ما يُعرف بالاستعمار أو الوجود الأجنبي، والثاني أن الدولة وُلدت وابتدأت وجوديًا وتنمويًّا في العصر الحديث من العدم أو من «الصفر»؛ فلم يكن هناك وراثة لمؤسسات إداريَّة أو ماليَّة أو خدمات من دولة أو تجربة سابقة ، أو حتى بقايا دولة، أو تجربة سابقة لها.
وباعتماد الدولة السعوديَّة على البناء الذاتي والخاص أوجد لها شخصيَّة تاريخيَّة خاصة توافرت لها عوامل الشرعية والمتانة والاكتفاء الثقافي والمعنوي والثقة السياسيَّة والحضاريَّة بشكل متين ومتصاعد.
وأعتقد أنه من الضرورة العلميَّة والثقافيَّة ــ حتى نحقق فهمًا ووعيًا أعمق لعمليات بناء الدولة السعوديَّة ــ أن نعرض هذه التجربة البنائيَّة التاريخيَّة في مراحل بنائها السياسي والحضاري على نظريَّات ومفاهيم بناء الدولة التي تناولها الباحثون والمفكرون، وأن نحاول المقارنة والتفسير والتحليل والمقاربة.
والتأسيس والبناء من الداخل في الحالة السعوديَّة منحها الشرعيَّة الوثيقة وجعلها أكثر قبولاً وصدقًا وتمكينًا، فبدأ يسري في المجتمع وينساب في الأذهان والأفكار المعتمدة على الدين والعقل والتطبيقات العملية للدولة وقادتها ومؤسساتها قيمة البناء والوحدة الوطنيَّة وقيمة وسمو المنجزات السياسيَّة والحضاريَّة دون «تمرير» للمشروع من قوى المصالح الخارجيَّة التي تعرضه للهشاشة في ظل التعقيدات الكامنة والمتجذرة، فكان هذا البناء الداخلي أكثر جودة واستمراريَّة تصاعديَّة لثلاثة قرون، ويؤكد موثوقية هذه الشرعية وقيمتها التاريخية الكثير من الآراء والنظريات المعرفية التي نعرض لها هنا بالتحليل والمقارنة التاريخية.
وعندما نتحدث عن الدولة السعودية، فإننا نتحدث عن ثلاثة قرون تحقق فيها الوحدة والأمن والرخاء والاستقرار بالأسرة السعودية الحاكمة، ولا يمكن للحديث عن الدولة السعودية وفلسفتها وأسرار نشأتها وعوامل نهضتها، إلا أن تكون الأسرة المالكة أسرة آل سعود العامل المؤثر والقائد في هذه الصناعة التاريخية فهذه الأسرة من أبناء هذه المجتمع، وأصبح لهذه الأسرة مع شعبها علاقة فريدة ممتلئة بالكفاح والصبر والعطاء والثقة عبر الأجيال.، ويمكن القول: إنi من الممكن في الكثير من الدول المعاصرة أن تكتب أو تتحدث عن الوطن دون الحديث عن حكامه، وهذا لا يمكن أن ينسجم في المملكة العربية والسعودية بحكم ظروف التأسيس والبناء التاريخي الذاتي والتجربة التاريخية المتينة والصاعدة حتى وقتنا الحاضر.
إن القرار الملكي الكريم بتخصيص يوم التأسيس هو خطوة هيكلية لبناء الذاكرة التاريخية للأجيال لمعرفة تاريخهم وجذورهم بالحقائق والموثوقية التاريخية بكل نقاء ووعي. وهذه عادات القيادات التاريخية النادرة والدول القادرة التي تملك العزم والحكم في الاستثمار في التاريخ وفي تطوير دولها وتعزيز قيمة شعبها فتحقق متانة البناء ومتانة التجربة وثقة الاتجاه نحو المستقبل وتكرر الاحتفاء بالتأسيس بل بقيم التأسيس.