أ. د. علي بن فايز الجحني
وكيل جامعة الأمير نايف العربية سابقًا
يجيء اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية في هذا العام والوطن يعيش ــ بحمد الله ــ نهضة شاملة تسابق الزمن لبلوغ أرقى المستويات، وتحقيق أكبر المنجزات بعد أن تحقق للمواطن الكثير والكثير مما يجعلنا نقف أمامها إكبارًا وإجلالًا.
من المعلوم أنه قبل توحيد الوطن كانت الأوضاع على جميع المستويات في غاية السوء، إذ ليس للأمن في حقيقة الأمر من وجود، ولا للدماء المعصومة من حرمة، ولا للحياة من قيمة، وامتدت المعاناة إلى حجاج بيت الله الحرام لدرجة أن أهالي الحجاج في الداخل والخارج كانوا يودعون أقاربهم الذاهبون لأداء فريضة الحج وكأنهم ماضون إلى حتفهم، إذ لا يعلمون إن كانوا سيعودون فعلًا إلى أهلهم سالمين أم لا.. فالطريق طويل، ومحفوف بالمخاطر، وقطاع الطرق على وجه الخصوص يتربصون بقوافل الحجيج، أما إذا عادوا سالمين من رحلة المعاناة، فإنها تقام لهم الزينات والأفراح، ويقبلون عليهم الناس يهنئونهم على ما وفقوا إليه من عبادة الله، ومن سلامة عودتهم إلى أوطانهم، وكأنهم ولدوا من جديد، ولذا كان يتردد قولهم: «الذاهب للحج مفقود والعائد منه مولود».
وفي هذه الأوضاع الفوضوية المتردية قيّض الله لهذا الوطن ابنًا بارًا من أبنائه البررة، وقائدًا عبقريًا ملهمًا، إنه الملك عبدالعزيز ــ طيب الله ثراه ــ فانبثق فجر جديد، وحول بتوفيق الله وعنايته هذه البلاد من بؤرة جحيم وظلام دامس وجهل، وخوف وفتن إلى كيان قوي موحد ومترابط يعيش أبنائه في أمن وأمان وحياة كريمة لايضاهيه فيها أي مجتمع من المجتمعات.
ونهضت القيادة بشعبها ووفرت له الأمن والحياة الكريمة، وباستتباب الأمن، انطلقت مسيرة البناء والتطور والتنمية، فالأمن والتنمية وجهان لعملة واحدة، إذ لا بديل لأحدهما عن الآخر، وقد أصبحت المملكة مثال حي، ونموذج أسمى بين دول العالم في الأمن والتنمية الشاملة التي تحققت على أرض الواقع في وقت قياسي.
وبمناسبة (ذكرى اليوم الوطني) نحيي أبطالنا: أبطال الأرض وفرسان الوطن وأسود العرين، وحماة الثغور والحدود، وعناوين الشرف والأخلاق رجال القوات المسلحة والأمن في المواقع والميادين التي يسهرون من خلالها على أمن البلاد وراحة المواطنين والمقيمين بتوجيهات ومتابعات مستمرة من ولاة الأمر أعزهم الله.
وفي وقفة تأمل نجد أنه في العقود الماضية، وخاصة في السنوات الأخيرة تعرضت المملكة إلى هجمة شرسة، وحملة تشويه غير مسبوقة من جهات وتنظيمات وعملاء وخونة، بهدف النيل من الثوابت السعودية، ولكن محاولاتهم خابت وبائت بالفشل والخسران، أمام التلاحم السعودي الصامد بين القيادة والشعب، فما كان منهم إلا أن اتجهوا إلى محاولات شريرة للنيل من شباب الوطن واصطيادهم بشتى أساليب الإغواء والمكائد.
إن الشباب السعودي المولود في العقود الأخيرة يمثلون عمود المجتمع ونواة مستقبله، لذلك كانوا وما زالوا هم المستهدفون بالحملات المعادية ضد قيمهم وقناعاتهم، مما يتطلب تعزيز الاستراتيجيات التي تستوعب حجم وخطورة التحديات والتهديدات، الآنية والمستقبلية، بحيث تأخذ بعين الاعتبار بناء وتأصيل مفهوم: (البر الوطني)، الذي يتمحور حول الإحساس بالمسؤولية وتعميق الولاء والانتماء، وتفعيل برامج الأسرة، ودورها الحيوي في التنشئة والتربية القائمة على إعداد المواطن الصالح المنتج إعدادًا قادرًا ومؤهلًا على الصمود بعيدًا عن القنوط والسقوط والإسقاط.
إن من مقتضيات البر بالوطن التصدي للعاقين له، وفي الوقت نفسه المحافظة على سمعته في الداخل والخارج، ففي الخارج على المواطن مسؤولية تمثيل المبدأ والوطن أصدق تمثيل بحيث يكون بارًا به مدافعًا عنه رافعًا سمعته ومكانته في جميع البلدان، وأن يكون قدوة حسنة سلوكًا وتعاملًا وبذلًا سواء كان طالبًا أو سائحًا أو زائرًا، ويكفي السعودي فخرًا أن السعودية بلاد الحرمين الشريفين، وبلاد التوحيد والوحدة والقادة العظام والمنجزات الجليلة على كل صعيد.
لذلك فإن التفاني في خدمة الوطن واجب يبدأ من الطفولة، ويتدرج من الصغر إلى الكبر عبر مسيرة المواطن من المهد إلى اللّحد، ووفق التوجيهات السماوية، حتى يسود الاستقرار الاجتماعي والنفسي والنماء كل انحائه، ويلمس القاصي والداني آثار البر بالوطن تقدمًا وازدهارًا، وهذا واجب التربية الأسرية والوطنية التي تغرس في أبنائها تحمل المسؤولية، ومواجهة التحديات والمهددات للوطن بكفاءة واقتدار، خاصة وأن العالم يمر بواقع خطير وظروف استثنائية تتطلب مستوى معينًا من المواطنين البارين بوطنهم القادرين على المحافظة على أمنه ومنجزاته، على ألا يغيب عن البال أن أهم ظواهر العقوق للوطن يبدأ من المشكلات الأسرية بين الوالدين وغياب الاستقرار الأسري وضعف ــ وربما فساد ــ البيئة التربوية الحاضنة فينشأ أطفال غير أسوياء يسيئون في مستقبل أيامهم لوطنهم ومجتمعهم ومعظم النار من مستصغر الشرر.
إن الذين يسئون للوطن من أبنائه هم في واقع الأمر فئة لم تتشرب الوطنية والبر الوطني، ولم يتحصنوا بركائز البر والوطنية التي من شأنها أن تعصمهم من التردي في أوحال العقوق والتجاوزات، وبمعنى آخر افتقارهم للأمن الفكري، والحصانة الذاتية التي تحميهم من المبادئ الهدامة واللهاث وراء القشور والدعوات المضللة.
إن المرحلة الحالية والمستقبلية تتطلب استنهاض الهمم والطاقات لخدمة الوطن ومواكبة طموحات القيادة، وفي الوقت نفسه تنشئة الجيل على الولاء والانتماء في إطار المسؤولية التضامنية بين كل الجهات ذات العلاقة بإعداد الإنسان السعودي الصالح إعدادًا يجعله في منأى عن الاختراق والضعف حفاظًا على مبادئه وهويته ووطنيته، ومحاربة فلول العاقين، من دعاة التضليل والتطرف، والتخلف، والتغريب، والمملكة بطبيعة الحال كأي مجتمع ليست بمنأى عن العاقين من بعض المرضى الخارجين عن القانون والأعراف. وفي ذكرى اليوم الوطني من واجبنا أن نعتز ونفتخر بأن استراتيجية التوازن والاعتدال والنماء السعودية نجحت بشكل منقطع النظير، وأثبتت أنها الخيار الصحيح والأقوم، لأنها ركزت على بناء الإنسان، وجعل الأمن والتنمية واقع، ورساله حياة، ولذلك ولأسباب كثيرة، فإن أعداء الوطن يحسدون السعودية لما حباها الله به من مكانة، وثروات، وخيرات، وما تضطلع به القيادة من أدوار بارزه وباهرة عبر جميع مسارات التنمية والإصلاح، والعلاقات الدولية، ومن ذلك النهوض بالإنسان والاقتصاد، ومحاربة الفساد، والتطرف، وتشجيع الاستثمارات، وبناء قوة عسكرية مؤثرة
ترهب الأعداء، وتحافظ على الكيان ومصالحه.
إن علينا أن نستلهم دورنا ورسالتنا كسعوديين مع إطلالة فجر كل يوم جديد، وأن نغرس في قلوب أبنائنا ثوابت المنهج، وقيم الوطنية والخير والأمن، واحترام النظام، والإخلاص في العمل، وحمل الأمانة بجدارة كل في موقعه، والمحافظة على ما تحقق من إنجازات، والنظر إلى المستقبل بتفاؤل، ومثابرة، والوقوف صفًا واحدًا ضد المتربصين بوحدة الوطن مهما تعددت واختلفت ألوانهم وعناوين مسمياتهم، وهذا يمثل قمة البر بالوطن والاعتزاز به، ولذلك كان وما زال سر قوتنا يكمن في التلاحم بين القيادة والشعب وفي تمسكنا بقيمنا ومبادئنا، وفي القيام بالواجب بصدق وأمانة، وألا نلتفت للأعداء والحاقدين:
ما يضرُّ البحرَ أمسى زاخرًا
إنْ رمى فيه سفيه بحَجَرْ
وقال الشاعر :
كناطحِ صخرةً يوما ليُوهِنَها
فلم يَضُرَّها، وأوْهى قَرنَه الوَعِلُ
وعودًا على كلمة (البر الوطني) التي في عنوان المقالة، فإن عكسها العقوق، وعقوق الوطن حرام، وأمر شنيع وبشع وخطير، ويتمثل في عدم الإخلاص له، أو تبني ونشر المبادئ والأفكار الهدامة وما يمس الأمن والاستقرار، بأي صورة أو كيفية، وبمعنى آخر اقتراف ما يثير الفتن أو يفرق وحدة الوطن واستقراره، أو يهدد ترابط أبنائه وتلاحمهم، أو الإخلال بواجبات الوظيفة العامة، كما أن الفساد والخيانة والإرهاب من أشد الجرائم على المجتمعات، وتشكل تهديدًا لأمن المجتمع وعقوقًا وانتهاكًا لحرمته المقدسة.
إن تهديد الأوطان يحتوي على أمرين، خطرين هما: التهديد للأمن الخارجي، والتهديد للأمن الداخلي، والخارجي يتمثل في: الخيانة والتجسس، وغيرها والتهديدات الداخلية تتمثل في: الإرهاب والاتجار بالبشر والمخدرات والمؤثرات العقلية، والجرائم الإلكترونية والجرائم الماسة بأمن الدولة وغيرها.
والحق أن المملكة تمثّل أنموذجًا في القيادة المتزنة الحكيمة في الاعتدال والتسامح، وتجاوز الصعاب والتحديات على اختلاف أحجامها وتعقيداتها خلال مسيرتها.
وها هي المملكة اليوم ملء السمع والبصر مما جعلها رقمًا صعبًا على المستويين الإقليمي والدولي، وغدت لها اليد الطولى في رعاية السلم والأمن الدوليين من خلال ما تقدمه من مواقف ومبادرات اكسبتها ثقة واحترام قادة المجتمعات الدولية لبعدها عن التكتلات، وحبها للسلام والتسامح، ومع هذه السمات والخصائص الفريدة التي نعيشها صباح مساء، فإنها لا تمنعها من الرد بقوة على كل معتد أثيم يهدد أمنها واستقرارها ومصالحها.
وبكل وضوح، فإن التراخي في الإنجاز في أي عمل يخدم الصالح العام هو من العقوق للوطن، أو تقديم من لا يستحق على من يستحق تحت أي مبرر هو عقوق وطني، وخروج الأموال وتهريبها وتوظيفها دون أن يستفد منها الوطن ضربًا من العقوق، حيث إن هذا العمل سيؤدي إلى حرمان البلد من الفوائد الإيجابية، التي يمكن أن يحصل عليها أبناؤه لتحقيق التنمية الشاملة، مثل: زيادة معدلات النمو، وعلاج مشكلات البطالة، والقصور في الوفاء باحتياجات الإنسان والاستثمار.
إن للوطن حق على أبنائه من خلال البر به والوفاء على كل صعيد، وبما يصب في الحفاظ على الأمن الوطني بكل الأبعاد الأمنية: الأمن الفكري، الأمن الاقتصادي، الاجتماعي، والعسكري، والسياسي، والمعلوماتي، والبيئي والسياحي.
وبناء عليه ندعو إلى المزيد من مبادرات الإنسان السعودي الإيجابي لتعزز البر الوطني والوفاء والولاء والانتماء وأن نعتز بموقع الوطن المتقدم بين أكبر اقتصادات العالم، وأن نفخر بمكانته الدولية في الأمن والتنمية وحركة الاقتصاد وسياسات الطاقة العالمية، وأن نرفع أصواتنا عاليًا معبرين عن حب وطنّا فوق كل أرض وتحت كل سماء، وأن نلهج بالشكر والثناء لله ثم بالولاء والإخلاص والطاعة المطلقة غير المقيدة لقادة الوطن.
إن واجبات المواطن نحو وطنه هي التزام ديني وقانونيّ وأخلاقيّ، يجب الالتزام بها داخل المجتمع وخارجه لتحقيق أقصى درجات التطور والتنمية والتكافل الاجتماعي، وهذا مما يدخل في نطاق الحفاظ على أمن الدولة، والاستعداد للتضحية بالأرواح والأموال وبالغالي والنفيس، واحترام الأنظمة والقوانين السارية وعدم مخالفتها، والدعوة إلى تَطبيقها، كما أن من الإخلاص للوطن عدم التهرب من دفع الاستحقاقات من الضرائب والرسوم والفواتير ..إلخ، والمُشاركة في خدمة قضايا المجتمع وحماية ممتلكات الدولة ومرافقها العامة وعدم الإساءة لها، والمساهمة بشكلٍ إيجابيّ في رفعة شأن الوطن، وهذا يتطلب استخدام كل الوسائل المتاحة لتكريس المتطلبات التالية:
ــ غرس الانتماء للوطن والبر به بالتعاون بين المؤسّسات، ووسائل الإعلام، وكل الأوساط الاجتماعية.
ــ احترام العلم الوطني والنشيد الوطني،والمشاركة الإيجابية الفاعلة.
ــ عدم هدر موارد الدولة مثل: هدر الماء، وقطع الأشجار، والحفاظ على الحياة البرية، ومراعاة الثروة الحيوانية والنباتية والبيئية.
ــ العمل بجِد وإخلاص للارتقاء بصناعات الوطن.
ــ النزاهة ومعاملة الناس جميعًا بمستوى واحد، من حيث الحقوق الواجبة، والحرص على التقيد بالقوانين المنظمة للعمل، والأمانة من حيث الحضور والانصراف والاتقان.
ــ ترسيخ مبدأ المساواة وألاّ يعتقد أحد في كل أرجاء الوطن أنّه أعلى من غيره «إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم».
ــ أن يكون حب الوطن حقيقة تجري في عروق أبنائه، والله سبحانه وتعالى جعل حب الوطن وحمايته والدفاع عنه جهادًا، فقال في كتابه العزيز: «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ». وقد عبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حبه لمكة؛ فقال يوم هاجر منها: «اللهمَّ أنتِ أحبُّ البلادِ إلى اللهِ، وأنتِ أحبُّ البلادِ إليَّ، ولولا المشركونَ أهلَكِ أخرجوني لمَاَ خرجتُ منكِ».
عاش الوطن الشامخ، عاش مشرقًا بالحب والعطاء، والنصر، معمورًا بحسن ولاء وانتماء أبنائه الأبرار المدافعين عن حياضه في ظل قيادته الحكيمة.