د. أحمد بن حسن الشهري
كاتب وباحث في العلاقات الدولية
رئيس منتدى الخبرة السعودي للبحوث والدراسات
بما أنّ الإعلام هو الإخبار، فبدايته كممارسة بدأ منذ بدء الخليقة، وبالتالي نستطيع أن نقول: إن الإعلام ظل حاضرًا مع الإنسان في أفراحه وأتراحه وحروبه وأزماته!
وهذا يعطي دلالة على أهمية هذا الإعلام في تاريخ البشرية! من خلال نقل الأخبار وتحليل الأحداث، وإن كان انطبع هذا الإعلام بطابع كل جيل وأدواته وتقنياته ووسائله التي يمكن من خلالها أن يؤدي وظائفه المعروفة. وبعيدًا عن الاستقصاء التطوري التاريخي للإعلام اجتزئ دوره في العصر الحديث خلال الحروب والأزمات.
فمنذ بداية بثّ الراديو عام 1920م كأول وسيلة إعلامية حديثة كانت مساهمته في الحرب العالمية الثانية مع بداية الغزو الألماني لأوروبا بدءًا ببولندا، حيث استطاع الإعلام الحربي الألماني أن يدخل نظام الدعاية التي خطط لها ببراعة وزير الدعاية الألماني (جوبلز)، حيث استخدم نظرية (بول ايرليش 1907م) الرصاصة السحرية لإقناع الجماهير وتوجيههم لا شعوريًا للحروب تحت تأثير الدعاية السياسية التي اعتمدها هتلر في تلك الحروب، وهذا يعطي الدور الخطير الذي شكله الإعلام ووسائله في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهو ما دفع صاحب نظرية الرصاصة بالاعتقاد بالقدرة الخارقة لوسائل الإعلام في التأثير على الجمهور ومواقفه وقدرته على تكوين رأي عام جماهيري، وهذا يعطي دلالة على أهمية وسائل الإعلام في صناعة الانتصارات الحقيقية أو الوهمية، وقد اتضح هذا الدور أيضًا في (حرب 67) عندما كان الإعلام المصري يبرز نوعًا من الانتصارات التي ربما تعطي نشوة بالنصر الوهمي الذي لم يلبث أن يتضح أنه كان مجرد دعاية سياسية لم يستطع تغطية الهزيمة، ومثله الإعلام العراقي الذي ظلّ يستخدم الدعاية السياسية الكاذبة بالنصر، وظلّ ينشر هذه الدعاية حتى وصلت القوات الأمريكية شارع الرشيد وسط بغداد.
والملاحظ في هذه الحروب أن استخدام وسائل الإعلام لتغطية الحروب لا يتسم بالآنية والمزامنة لواقع الميدان، فالراديو والتلفاز والصحافة ينقصها البثّ المباشر من الميدان، ولذا يسهل تزييف الحقائق وفق منظور (حارس البوابة) المحرر لهذه الوسائل، وتنسحب هذه الرؤية على عدد من الحروب منها: الحرب في يوغسلافيا وأفغانستان وغيرها من الحروب التي كانت التغطيات الإعلامية لها وفق منظور الجهات المرسلة لهذه الأخبار. وقد تطور أسلوب الدعاية في الحروب عبر التاريخ، فقد ذكر المفكر (أفرام نعوم تشومسكي) في كتابه: (السيطرة على الإعلام): إن أول عملية دعائية حكومية في العصر الحديث كانت في عهد الرئيس الأمريكي (وودر ويلسون 1916م)، الذي لم يكن يرغب دخول الحرب العالمية الأولى، واعتمد في حملته الانتخابية شعار: (سلام بدون نصر) لكن عندما بدأت أمريكا في دخول الحرب قامت إدارته بإنشاء لجنة للدعاية الحكومية أطلق عليها (لجنة كريل) مهمتها توجيه الرأي العام الأمريكي من حال السلم إلى حال الحرب، ومن خلال التجييش وإثارة هيستيريا ضد الرعب الشيوعي.
إلا أن النقلة النوعية للإعلام الحربي بدأ عام 1990م إبان حرب الخليج الأولى وانطلاق القنوات الفضائية التي تعتمد على النقل الفضائي عبر الأقمار الاصطناعية، ويتوفر لها البث الحي المباشر من أرض المعركة خلاف البث السابق عبر الكابل. ففي حرب الخليج انطلقت العديد من الفضائيات، وأصبح المراسل الحربي حاضرًا في أرض المعركة مصحوبًا بالكاميرا التي تغطي بالصورة الحية لمجريات المعركة، وأصبحنا نشاهد عبر الشاشات عملية إطلاق الصواريخ والطائرات، وهي تقلع متجهة لضرب أهدافها، وكذلك الحروب البرية أثناء تقدم القوات المسلحة على الجبهات ومشاهدة الجنود أثناء الاشتباك والتقدم من الخطوط الأمامية، وهذا عزّز دور الإعلام في تكوين رأي جماهيري يمكن توجيهه من خلال قوة تأثير وسائل الإعلام ومن يملكها ويديرها ويستطيع حشد قدرات دعائية قوية من خلال خطط مدروسة يمكن من خلالها صناعة النصر قبل حدوثه وإبراز الهزيمة قبل وقوعها، وقد اتضح ذلك جليًا في حرب الخليج من خلال الإعلام الغربي الذي ظل يحشد ويؤجج ضد النظام العراقي، ويعظم خطره على المنطقة وامتلاكه لأسلحة دمار شامل يمكن أن تدمر المنطقة حتى أصبح احتلال العراق وتدميره أمرًا مشروعًا مقابل ذلك الخطر المزعوم!!
الصورة ذاتها تتكرر ولكن برؤية مختلفة في الحرب الروسية الأوكرانية؛ فمع تحرك أول دبابة روسية نحو أوكرانيا فرضت روسيا والدول الغربية قيودًا صارمة على وسائل الإعلام لإدراكهم بأهمية وسائل الإعلام، حيث وصل الأمر بالديموقراطية الغربية إلى حجب ومنع وسائل الإعلام الروسية من البث عبر منصاتها وإقفال وطرد وسائل الإعلام الروسية من الغرب، وهذا بهدف التحكم بالرواية الإعلامية المراد إرسالها، ومن تلك القنوات الروسية التي تم حظرها قناة: (روسيا اليوم)، (وسبتنويك) الروسيتين ومنعهما من البث في دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا، وإغلاق مكاتب القناتين بحجة نشرهما معلومات مضللة، وامتد هذا الإغلاق إلى مواقع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، مثل: تويتر ويوتيوب والانستجرام، ووصل هذا الحظر إلى الطلب من غوغل حجب أسماء الوسائل الروسية بحيث لا تظهر عند البحث في محرك غوغل. إلا أنه رغم هذه الإجراءات لم يتمكن الغرب من حجب أخبار الحرب الروسية الأوكرانية نتيجة وجود صحافة المواطن التي تنقل الحدث في آنه وساعته، كذلك وجود المراسلين الحربيين من شتى أنحاء العالم الذين يغطون الاحداث في أوانها.
ومن هذه القراءة يمكن للمشاهد الذي تعوّد على مشاهدة الدراما والأفلام أو الأخبار المعلبة مسبقًا أصبح يشاهد الصواريخ تحلق في الفضاء، ويشاهد الطائرات الحربية والمسيرة وهي تلقي بحمولتها على الأهداف، ثم يتابع النتائج لمشاهدة آثار الدمار والدخول للبيوت المدمرة والدخول للغرف والملاجئ لتوثيق أدق التفاصيل، وبالتالي أصبح الإعلام هو من يدير المعارك ويوجه رأي المشاهد من خلال التركيز على إبرازها للجمهور عبر نظريات تدفق المعلومات والإطار لوضع المشاهد في الإطار المراد من خلال الرسالة الإعلامية، كما أن هذا الإعلام أصبح حاضرًا في تفاصيل هذه الحروب وإبراز المشاهد الدرامية للمصابين والمهجرين وهم يحملون حقائبهم مغادرين منازلهم في الوقت الذي يبرز الإعلام الآخر ما أحدثته صواريخ الخصم من دمار وتشريد الأسر لمحاولة كل طرف شيطنة الطرف الآخر، وهذا واقع الإعلام في الحروب استطاع أن يصنع رؤية يمكن من خلالها معرفة فلسفة الإعلام ووسائله المختلفة في الحروب الحديثة التي يمكن أن نقول أنها أصبحت حروب (Online) مباشرة.
كذلك رأينا الإعلام حاضرًا في أحداث العراق وسوريا ولبنان وليبيا لينقل الصور الحية المباشرة من واقع الميدان، وليصبح ذلك المراسل بكاميرته هو من يختار لنا ما نشاهده وفق نظرية «الأجندة» فما أن تبدأ نشرة الأخبار حتى تأخذنا الكاميرات إلى التفجيرات والصواريخ والدبابات والحرائق وعربات الإسعاف وهي تنقل الجرحى، وهذه الحقيقة مع الوقت أوجد نوعًا من الاعتياد لدى المشاهد، وهذا سيوجد مع الزمن اللامبالاة بما يحدث وقد يدخل في «أفلمة» المشاهد، أي اعتبار ما يحدث فيلم سينمائي عنيف من تلك الأفلام التي ظل الغرب يسوقها لتقديم بطولات مزيفة عن تاريخ ملئ بالموت.
أما في الكوارث والأزمات الطبيعية، مثل: الزلازل والفيضانات والعواصف العاتية وما تخلقه من دمار وموت وشتات، فإن الإعلام أصبح حاضرًا فيها بقوة من خلال التغطية المباشرة لعمليات الإنقاذ وتسليط الضوء على المشاهد الدرامية وإنقاذ الأطفال والمحتجزين تحت الإنقاذ، وإبراز بطولات رجال الإنقاذ ومتابعة حملات الإغاثة مما انعكس على سرعة الإنقاذ والإمدادات والمساعدات للمنكوبين.
إذاً يتضح أن الإعلام أصبح حاضرًا بحديه الإيجابي والسلبي في السلم والحرب مما يدل على دوره المهم في عصر التقنية مما يتطلب المزيد من بحوث الإعلام لإعادة قراءة دوره ومهامه ومخاطره من جديد!!