بعد الاختراقات التكنولوجية، وخاصة في أنظمة الاتصالات والأتمتة وتكنولوجيا النانو، يستمر تطوير واستخدام الأنظمة المسيرة في مجال الدفاع في الازدياد يومًا بعد يوم، ففي البداية شاهدنا الطائرات بدون طيار تأخذ زمام المبادرة، ونلاحظ الآن أن المركبات البحرية المسيرة (أو السفن في بعض الحالات) تكتسب زخمًا كبيرًا.
في الواقع، تم استخدام الأنظمة البحرية المسيرة كمنصات لجمع المعلومات الاستخباراتية والمراقبة والاستطلاع (ISR)، ومع ذلك كانت هناك زيادة كبيرة في استخدام الأنظمة البحرية المسيرة في المهام التشغيلية والتكتيكية منذ أن قللت مفاهيم المركبات البحرية المسيرة للتوظيف من المخاطر التكتيكية والتشغيلية مقارنة بالممارسات الحالية، ويمكن أن تتراوح مهام المركبات البحرية المسيرة المحتملة من مجمعات بيانات صغيرة بحجم طوربيد إلى سفن كبيرة مسيرة.
إنّ استخدام هذه الأنظمة يختلف كثيرًا عن نظيراتها الجوية والبرية، ففي عمليات الأمن البحري المستقبلية سيكون استخدام هذه الأنظمة كبيرًا للغاية، كونها تقوم بشكلٍ كبير بزيادة قدرات المراقبة للقوات البحرية، وتساهم في مكافحة القرصنة، تجارة المخدرات، مكافحة تهريب أسلحة الدمار الشامل وعمليات اللاجئين، أما في الحروب البحرية فهي واعدة بشكلٍ خاص، فيما يتعلّق بتحسين قدرات المنع البحري والحرب المضادة للغواصات والألغام وتعزيزها، كما أنّه من المرجح أن تثبت الأنظمة البحرية غير المأهولة أنّها لا تقدَّر بثمنٍ في الحفاظ على أمن الممرات البحرية الهشّة، التي يعتمد عليها ازدهار الاقتصاد العالمي.
وهذه أهداف يمكن للمركبات البحرية المسيرة، على اختلاف أحجامها وطبيعة المهام المُوكلة لها، أن تساهم فيها، وهو ما يُفسر اتجاه عدد من الدول الفاعلة إلى الاعتماد على مثل هذه المُسيّرات لأسباب عدة تتراوح بين تحقيق المكاسب المادية، وحماية الشركاء، وردع الأعداء، وغيرها من أهداف تتعلق بقضايا الأمن البحري وتهديداته.
المركبات البحرية المسيرة: أنواعها ومهامها:
المركبات البحرية المسيرة Unmanned Maritime Systems-UMSs ليست ظاهرة جديدة تماماً، فمع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت المركبات البحرية المسيرة المتحكم بها عن بعد مستخدمة من قبل البحرية الأمريكية للمسيرات المستهدفة وكاسحات الألغام،(1) وفي القرن الحادي والعشرين، أدت التطورات في أنظمة تحكم المركبات المسيرة وتقنيات الملاحة إلى مركبات مسيرة يمكن للمشغل التحكم فيها عن بُعد من الأرض أو من سفينة قريبة،(2) وتقدِّم المركبات البحرية المسيرة عددًا من المزايا، تجعلها تتقدّم على الأنظمة المأهولة، من بينها الكلفة المنخفضة والقدرة على التحمّل، أي القدرة على تنفيذ المهام والمثابرة في منطقة العمليات، كما أنّها تسمح بتغطيةٍ أكبر لعمليات ISR) Intelligence, Surveillance and Reconnaissance)، والقدرة على العمل مع سمة هامة هي التخفي الشبح.
وعلى الرغم من ذلك، فأن لها عيوبًا بالنسبة للأنظمة المأهولة، فهي أكثر اعتمادًا على الاتصالات بمعنى أنّ فقدان رابط الاتصالات قد يؤدي أحيانًا إلى تعطيلها تمامًا، أو على الأقل إضعاف وظائفها أو فوائدها، بالإضافة إلى ذلك قد يكون لها قيود تصميم تجعلها غير فاعلة في ظروف معيّنة، حيث يكون لأطقم الأنظمة المأهولة قدرة أكبر على التفاعل معها، كما التكيّف بشكلٍ عام مع المواقف التي ربما لم يتم أخذها بعين الاعتبار عند تطوير هذه الأنظمة، تشمل الأنظمة البحرية المسيرة نوعَين، هما: المركبات السطحية المسيرة Unmanned Surface Vehicules-USVs، والمركبات تحت السطح المسيرة Unmanned Undersea Vehicules-UUVs، ولكل منها خصائص مختلفة في العمليات البحرية وتخضع لقيودٍ محددة.(3)
1. المركبات السطحية غير المأهولة (Unmanned Surface Vehicules):
تشمل مهام المركبات السطحية غير المأهولة (USVs) ما يأتي:(4)
ــ تنفيذ الإجراءات المضادة للألغام لحماية الممرات المائية والمناطق التي تجري فيها العمليات.
ــ دعم العمليات الساحلية كالإنزال البرمائي خاصة في المياه الضحلة.
ــ الحرب المضادة للغواصات يمكن أن تواكب مجموعة سطح مأهولة لتحديد الغواصات وتعقّبها.
ــ الأمن البحري من خلال توافر الـ (ISR).
ــ حرب السطح من خلال المشاركة في مهاجمة الأهداف السطحية والحفاظ على وجودها في منطقة عمليات الـ (SOF) لتوافر الأمن لها.
ــ الحرب الإلكترونية توافر الحماية من الهجوم الإلكتروني وتنفيذ عمليات الخداع والتشويش.
ــ دعم عمليات الاعتراض والمنع البحري.
ــ المشاركة في عمليات تفتيش السفن من خلال إجراء استطلاع أولي لسفينةٍ مشبوهة.
يمكن إطلاق المركبات السطحية غير المأهولة من منصة النظام الأساسي عن الشاطئ، لتنفيذ المهام وجمع المعلومات باستخدام أجهزة الاستشعار الموجودة على متنه، ويُعدّ الزورق الأمريكي (Sea Hunter) أهم هذه الأنظمة بتكلفةٍ قدرها (23) مليون دولار، طوله 40 مترًا وهو قادر على العمل في أعالي البحار بسرعة (31) عقدة وبشكلٍ مستقل لمدة (3) أشهر، بمدى يصل إلى (10) ألاف ميل بحري كما أنّه يلتزم بقواعد الملاحة الآمنة.(5)
2. المركبات تحت السطح غير المأهولة (Unmanned Undersea Vehicules)
المركبات تحت السطح غير المأهولة (UUVs) عبارة عن غواصة ذاتية الدفع تكون عملياتها مستقلة تمامًا، أو تحت سيطرة بشرية بسيطة وغير مقيّدة، باستثناء وسائل إيصال البيانات ككابلات الألياف البصرية،(6) وكما هو الحال مع نظيراتها السطحية، يمكن لهذه الأنظمة أن تشارك أو تسهّل مجموعة واسعة من المهام منها: عمليات الـ(ISR)، إجراءات مكافحة الألغام، الحرب المضادة للغواصات، علم المحيطات، الاتصالات، جمع البيانات الأوقيانوغرافية، قياس الأعماق، حركة الأمواج والتيارات البحرية والبارامترات الجيوفيزيائية.
المركبات تحت السطح غير المأهولة صغيرة نسبياً، ممّا يعزّز إمكانية حملها ونشرها من الطائرات والسفن، وهي بالإضافة إلى استخدامها في الكشف عن الألغام وتعطيلها، تُعدّ جذابة بشكلٍ خاص لقدرتها على تفجير نفسها العمليات المتسلسلة (7) Cascaded ops ما أنّ لها مهام أخرى كالتنصّت أو تعطيل كابلات الاتصالات في قاع المحيط، والتي تحمل كل أنواع الإشارات والبيانات العسكرية والمدنية على حدٍّ سواء.(8)
دلالات تصاعد دور المركبات البحرية المسيرة:
الحديث عن مستقبل العمليات العسكرية البحرية، في ظل تنامي الابتكارات التسليحية الخاصة للمركبات البحرية المسيرة، والتي تتخذ من تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحكم عن بعد أساساً تنطلق من خلاله أنواع جديدة من الأنظمة التسليحية الدفاعية والهجومية، وفي الوقت الحالي تعمل العديد من الدول، على امتلاك غواصات مسيرة بقدرات قتالية، ويمكن إجمالها في الدول التالية:
الولايات المتحدة الأمريكية
رفعت البحرية الأمريكية في ديسمبر 2016م الهدف النهائي لأسطولها المستقبلي من 308 إلى 355 سفينة «قوة قتالية»، باتباع آلية دمج أعداد كبيرة من السفن السطحية غير المأهولة (USVs)، والمركبات تحت الماء غير المأهولة (UUVs)، وزيادة الاعتماد على المركبات الجوية غير المأهولة (UAVs) والذي من شأنه أن يوسع مدى وصول الأجنحة الجوية الحاملة، بيد أن هذه الاستراتيجية تواجه عقبات كبيرة ليس أقلها الكونجرس الأمريكي بشأن التكلفة النهائية، إذ أثيرت أسئلة حول ما إذا كان لدى البحرية العقيدة والمفاهيم الضرورية من أجل ملاءمة (USVs) و(UUVs) بشكل فعال في النمط العام لعمليات الأسطول؛ فضلًا عن مدى الثقة في قوة البنية التحتية التي يحتمل أن تكون مطلوبة لدعمهم، بالإضافة إلى سلامة وأمن المنصات التي يُحتمل أن تكون مسلحة والتي تعمل بشكل مستقل في البحر.(9)
وقد طورت الولايات المتحدة نوعين من الأنظمة غير المأهولة، وهي المركبات الغواصة Large Displacement Unmanned Underwater Vehicle LDUUV, والمركبات extra-large unmanned underwater vehicles XLUUV، وفي 23 ديسمبر 2020م طرحت البحرية طلب عروض تقنية تعرض في الربع الاول من 2021م, والبرنامج سمي رأس الافعى Snakehead، والمركبة ستكون عالية التحمل قادرة على القيام بمهمات متعددة، ولديها القدرة على إيصال حمولات مختلفة، كما تطلق المركبة من غواصات نووية أو سفن قتال ساحلية لتنتشر في البحر المفتوح، وفي البداية ستعمل الطائرة غير المأهولة على تزويد القوات البحرية بمعلومات عن ميدان المعركة البحري والتجسس لصالحها و بعد نضج البرنامج سيمكنها إيصال حمولات مختلفة مثل الألغام البحرية.(10)
كما أن هناك مركبة أخرى يجري تسليمها للبحرية الأمريكية هي «الحوت القاتل», طورتها شركة بوينغ بشراكة مع هانتيغتن اعتمادًا على نموذج أصلي Echo Voyager المقدر طولها بـ(26) متر و وزنها (50) طن جافة, وتعاقدت بوينغ مع البحرية الامريكية لتسليمها في فبراير 2019م خمس نماذج مقابل 274 مليون دولار، والمركبة موديلار modular design وبوزن أقصى للحمولات يصل لـ(8) طن يمكن تأهيلها للقيام باي مهمة سواء لإزالة الألغام أو عمليات قتالية بواسطة 12 أنبوب طوربيد أو التجسس وحمل سونار Raytheon PROSAS PS60-6000، حيث ستقاد هذه المركبة المسيرة بواسطة الذكاء اصطناعي.(11)
الصين:
منذ عام 2019م بدا واضحًا إتباع الصين نهجًا جديدًا للحرب، يعرف باسم: «الحرب الذكية» أو «الحرب القائمة على الذكاء الاصطناعي»، ويستند هذا النهج إلى تفعيل الذكاء الاصطناعي، وتوظيف المنصات غير المأهولة (الطائرات بدون طيار، على سبيل المثال) بطريقة تحقق هزيمة العدو في نهاية المطاف، دون اللجوء إلى الحرب التقليدية «الساخنة»، حيث أن ما يميز سعي الصين وراء «الحرب الذكية» يتمثل في الجوانب المعرفية الخاصة بتلك الحرب، وليس التركيز على الذكاء الاصطناعي، وحشد أسراب الطائرات بدون طيار.(12)
ففي خضمّ التطورات الطبية والسياسية والاقتصادية المرتبطة بأزمة جائحة كورونا، أعلنت الصين في مارس 2020م إتمامها عملية بحرية نشرت خلالها في الفترة ما بين ديسمبر 2019م فبراير 2020م، نحو (12) مركبة انزلاقية مسيرة من نوع «هايان – سي وينج» في أعماق المحيط الهندي، وقد أجرت هذه المركبات غير المأهولة عدداً هائلاً من عمليات الرصد والقياس التي تتعلق بأبحاث المحيطات والبيئة، هذا النوع من أنواع المركبات الانزلاقية الغاطسة تم الإعلان عنه بشكل فعلي في مايو 2014م، بعد إنهاء السلطات الصينية تجارب مدتها شهر كامل، تمت في بحر الصين الجنوبي، بشكل عام، هذه النوعية من المركبات مخصصة لعمليات المسح الطويلة المدى، والخاصة بالأعماق والبيئة.(13)
والجدير بالذكر أن البرنامج الصيني لتصنيع مركبات تحت مائية مسيرة، بدأت ملامحه تتضح في العام 2015م، بالإعلان عن نوعين من هذه المركبات، الأول هو «سياــ 4500»، الذي تم تطويره بالتعاون بين معهد «شنيانغ» للأنظمة الروبوتية والأكاديمية الصينية للعلوم، ويستطيع العمل على أعماق تصل إلى 4500 متر، ويُستخدم كمنصة لقياس التغيرات المغناطيسية في أعماق البحر، أما النوع الآخر، فهو مركبة الغوص العميق «تشيان لونغ»، المتخصصة في قياس طبوغرافيا الأعماق، وعمليات التصوير، ورصد القياسات الهيدرولوجية.(14)
وقد جاء في التقرير السنوي المقدم للكونجرس الأمريكي في عام 2019، حول «التطورات العسكرية والأمنية الخاصة بالصين»، والذي أعده مكتب وزير الدفاع: «يعمل جيش التحرير الشعبي الصيني على استكشاف مفاهيم عملياتية خاصة بالجيل القادم فيما يتعلق بالحرب القائمة على الذكاء الاصطناعي، مثل حرب الاستنزاف بواسطة الأسراب الذكية، والحرب التي تنتقل عبر مجالات مختلفة، والمواجهات القائمة على الذكاء الاصطناعي، وعمليات السيطرة المعرفية».(15)
التطوّر الأبرز في هذه السلسلة تم الإعلان عنه في أكتوبر 2019، خلال العرض العسكري الخاص باحتفال جمهورية الصين الشعبية بالذكرى السبعين لتأسيسها، حين تم للمرة الأولى عرض الغواصة المتحكم بها عن بعد «أتش أس يو. 1»، والتي دشنت بها الصين توجهاً جديداً نحو هذا النوع من التسلّح البحري، وهي مخصّصة لطيف واسع من العمليات الخاصة، من بينها عمليات رصد الألغام البحرية والاستطلاع والمراقبة ورسم الخرائط. وربما في النسخ اللاحقة، يتم تزويدها بإمكانية رمي ألغام آو إطلاق مقذوفات. (16)
ويرى الجيش الصيني أن الأنظمة غير المأهولة هي تقنيات بالغة الأهمية، ويسعى إلى تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية للمركبات الجوية والأرضية، وتلك التي تحت الماء لتمكين التشكيلات الهجين المأهولة وغير المأهولة، والهجمات المكثفة، والدعم اللوجستي الأمثل، والتصنيف الخاص بالاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، ضمن قدرات أخرى، ومن جانبها طورت الصين العديد من الغواصات الغير مأهولة ويلف الغموض الكثير منها, حيث تسعى البحرية الصينية لتطوير غواصات غير مأهولة مقاتلة وللتجسس وحتى انتحارية، والغواصات ستكون مجهزة بذكاء اصطناعي وعكس نظيرتها الأمريكية ستطلق من قواعد بحرية في بحر الصين, وقد انشأت الصين بالفعل قواعد رسو لهذا النوع من الغواصات، والنماذج الصينية دخلت الخدمة في 2020, مما يعني انها عاملة في البحرية الصينية.(17)
لكن هذا ليس كل شيء. ففي الوقت الراهن، القوات البحرية الصينية تتنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية في نطاق جديد تماما وهو المركبات غير المأهولة التي تعمل تحت الماء (أو الاسم الأكثر شهرة «درون الماء»)، حيث كشفت صور الأقمار الصناعية في سبتمبر 2022 عن اثنتين من تلك الغواصات التي تعمل بلا قيادة بشرية على الرصيف في قاعدة بحرية صينية في هاينان، ببحر جنوب الصين، لم يُعرف الكثير بعد عن الغواصتين، لكن إحداهما تبلغ نحو 16 مترا في الطول، والثانية نحو 18 مترا، وهما بذلك تنضمان إلى فئة نادرة هي المركبة غير المأهولة الكبيرة جدا، ويتنافسان على الصدارة مع مشروع أمريكي واعد هو الغواصة «Orca XLUV»، التي تخضع الآن للتطوير من قبل شركة «بوينج»، ويُعَدُّ الطول المتوقع لهذه الغواصة هو 16 مترًا.(18)
روسيا
تزايد اهتمام الجيش الروسي منذ أوائل العقد الحالي بإنتاج عدة أنواع من الغواصات المسيرة المخصصة للأغراض العسكرية، منها الغواصة المسيرة «كلافشين ــ تو بي»، وهي أحد أهم عناصر الجيل الجديد من الأنظمة البحرية المخصصة للعمل على متن الغواصات النووية الجديدة من فئة «بيلوجراد»، وتستطيع أيضاً العمل على متن سفن السطح، وبدأت الاختبارات العملية على هذا النوع من الغواصات منذ عام 2016، وتم في مارس 2018 إطلاقها بنجاح للمرة الأولى عن متن الغواصة النووية الجديدة «بيلوجراد»، ويبلغ طول هذه الغواصة 7 أمتار، ووزنها الصافي نحو 4 أطنان، وتستطيع العمل على أعماق تتراوح بين (2) و(6) كيلومتر، وهي مزودة بمجموعة من المستشعرات، بما في ذلك سونار للمسح الجانبي، ما يمكنها من رسم خرائط دقيقة لقاع البحر والمساعدة في عمليات البحث والإنقاذ خلال المعارك.(19)
تضاف هذه الغواصة المسيّرة إلى واحدة من أبرز المنظومات البحرية الروسية المسيرة وأهمها، وهي الطوربيد النووي «بوسايدون»، الذي أعلن عنه رسمياً في يوليو 2018، والذي يتميز بمداه البالغ 10 آلاف كيلومتر، وسرعته الكبيرة البالغة 200 كيلومتر في الساعة، وقدرة رأسه المتفجر التي تصل إلى 2 ميجا طن، والذي يستطيع إحداث صدمة انفجارية تتسبب في هزات أرضية قد ينتج منها موجات تسونامي كبيرة، هذا السلاح المتفوق بدأ بالفعل بالمناوبة القتالية على متن أول غواصة جديدة من فئة «بيلوجراد»، التي دخلت الخدمة في أبريل 2019، وانضمت إليها خلال العام المقبل 4 غواصات من فئات أخرى، تستطيع كل منها حمل ما يصل إلى (6) طوربيدات من هذا النوع.
وفي الإطار نفسه، تعكف الصناعات العسكرية الروسية، على إنتاج أنواع جديدة من الغواصات المسيرة التي تمتلك قدرات قتالية هجومية، ومن هذه التصاميم، الغواصة المسيرة «سيفالوبود»، التي تم الإعلان عنها بشكل مبدئي في يوليو 2017م، ويتوقع أن تحمل طوربيدات من عيار 324 ملم، كذلك تدرس البحرية الروسية اعتماد تصميم لمسيّرات مصغّرة تحت اسم «نيربا»، تستخدم في عمليات مكافحة الضفادع البشرية، وتتسلح بمدفع رشاش من نوع «أيه بي أس» قابل للعمل تحت سطح الماء أو بشحنات متفجرة.
دول أخرى في ميدان المركبات المسيّرة
تدرس وزارة الدفاع البريطانية تطوير مركبات (XLUUV) للقيام بمهمات تجسس بعيدة المدى لـ(3000) ميل و لمدة 3 اشهر، وفي خطوة ابتدائية أجرى المختبر منافسة لتزويده ببرنامج تحكم بالغواصة, البرنامج سيدمج على غواصة تجارية لدراسته, والغواصة المختارة ستوفر حجم حمولة بـ 70 قدم مكعب ووزن 2طن.(20)
أما تركيا فقد نجحت تركيا في العقد الأخير في تطوير منظومات ومنصات عسكرية متطورة وفعالة، وغير مأهولة يتم التحكم بها عن بعد استعداداً لخوض حروب المستقبل التي ستحل فيها الآلات مكان الجنود، وطورت منظومات رقمية لتمكين المنصات الجوية والبرية والبحرية للعمل ضمن فريق واحد، في السنوات الأخيرة، لم تنجح تركيا في قفز قفزات نوعية في الصناعات الدفاعية المحلية واقتحام الأسواق العالمية وحسب، بل نجحت أيضاً في توظيف التكنولوجيا وآخر ما وصلت إليه الرقمنة في المجالات العسكرية والاتصالات للخروج بأسلحة ومعدات وأنظمة مسيّرة حديثة ومتطورة ذات قدرات عالية للغاية، ستعطي الغلبة لمستخدميها في ساحة المعركة.(21)
دخلت الشركات اليابانية على خط هذه الأنظمة، حين عرضت شركة «أي أتش أي» اليابانية في نوفمبر 2019م منظومة ثنائية مسيرة للكشف عن الألغام البحرية، تتكوّن من غوّاصتين غير مأهولتين، تقوم الأولى بالبحث عن الأجسام المُحتَمل أن تشكّل خطورة على القطع البحرية، مثل الألغام والعوائق، ثم تقوم بتحديد ماهيّتها وتصنيفها، ومن ثم إرسال المعلومات الوافية حولها إلى سفينة القيادة على السطح، عبر الاتصال بالغوّاصة الثانية في هذه المنظومة التي تُرسِل بدورها البيانات إلى سفينة القيادة لاسلكيًا، يبلغ وزن الغوّاصة الأساسية في هذه المنظومة ما يقارب طناً، وطولها يصل إلى 5 أمتار، وتتزوّد بسونارين، الأول للمسح الجانبي للأعماق، والآخر مُتعدّد الحزم، إلى جانب كاميرا فيديو رقمية، ويمكنها أن تتزوّد بمعدّات أخرى بحسب الغرض من استخدامها.
تهديدات المركبات البحرية المسيرة:
مما لا شك فيه إن تقنيات الأنظمة المسيرة البرية والبحرية والجوية، التي جرى تطويرها وإنتاجها ونشرها في مسارح القتال والعمليات على الساحة العالمية، لاسيما في عمليات الحرب على الإرهاب في كل من أفغانستان والعراق واليمن والقرن الأفريقي منذ عام 2001، وتلك التي ما زالت تحت التطوير والتحديث بناءً على الدروس المُستفادة وبيانات التغذية الراجعة القادمة من الميدان، وتلك التي من المحتمل إن تظهر إلى حيز الوجود على خارطة التطوير والتحديث المستقبلية في المصانع والمختبرات، بعد عقد أو عقدين من الزمن، سوف تغير من حاضر ومستقبل الحرب الحديثة بصورة جوهرية.
يصعب اكتشاف المركبات البحرية المسيرة وتعقبها وتصنيفها، وترجع التحديات بشكل أساسي إلى صغر حجمها (على غرار الحيوانات البحرية الشائعة)، وعمليات المياه العميقة، وتوليد ضوضاء صغيرة أثناء التحرك تحت الماء، والقدرة على البقاء مغمورة لفترة طويلة من الزمن، علاوة على ذلك فإن المركبات البحرية المسيرة مغطاة بمواد ممتصة للصوت، قادرة على التحرك فوق البحر وتحته، ومجهزة بقدرات معرفية مستقلة، وتمثل تحديات إضافية للكشف والتتبع والتصنيف، كما تمثل المركبات البحرية المسيرة كأداة تخريبية وتعمل بشكل مستقل تهديدات كبيرة، ويمكن رصد التهديدات الناتجة عن توظيف المركبات أو الغواصات المسيرة، على النحو التالي:
1. تهديد المراقبة بالمركبات البحرية المسيرة تحت الماء، على سبيل المثال، يمكنها أن تتحرك بالقرب من المناطق الساحلية بسهولة مقارنة بالمركبات المأهولة تحت الماء، وعندما تكون بالقرب من المناطق الساحلية، يمكنها التنصت على المناطق المحيطة، وبالمثل يمكن استخدامها كأداة لجمع معلومات والمراقبة أثناء وجودها في البحر من خلال ربطها بسفينة كبيرة كطفيلي.(22)
2. التهريب باستخدام المركبات البحرية المسيرة، يمكن استخدامها لنقل المواد المهربة تحت البحر دون الكشف عنها.(24)
3. الانتحال والتشويش باستخدام المركبات البحرية المسيرة تحت الماء، يمكن استخدامها لإنتاج إشارات GPS مخادعة يمكنها تحويل مسار السفن، يمكن أيضاً استخدامها لاختراق / رفض المعلومات بين السفن أو بين السفن وأجهزة الإرسال والاستقبال الجوية / الأرضية.
4. تهديد سرب من المركبات البحرية المسيرة، يمكن أن تعمل بشكل مستقل في سرب تحت الماء،(23) كما يمكن أن يشكل سرب من المركبات البحرية المسيرة كتهديد كبير للمركبات الخارجية وتلك الموجودة تحت سطح البحر، ومواجهة سرب من المركبات البحرية المسيرة يمثل تحدياً كبيراً حتى الآن.
5. تهديد للبنية التحتية تحت سطح البحر، يمكن أن تشكل المركبات البحرية المسيرة تحت الماء الضارة تهديداً للبنية التحتية تحت سطح البحر (على سبيل المثال، كابلات الألياف الضوئية،(24) وخطوط أنابيب النفط / الغاز تحت البحر).(25)
وبالتالي، ففي ظل تفاقم تهديدات المركبات البحرية المسيرة، يتوقع أن يكون لتوظيف هذه النوعية من المسيرات تداعيات على المشهد الأمني حول العالم، خاصة في ضوء تطور التكنولوجيا المستخدمة فيها، وانخفاض ثمنها وسهولة الحصول على بعض مكوناتها من الأسواق التجارية.
الخاتمة
يمكن القول: إن التهديدات النابعة من المركبات المسيرة هو تهديد ناشئ جديد، غير أنه يتوقع أن يتم الاعتماد عليها مستقبلاً مع تصاعد صراعات القوى الكبرى، ووجود مؤشرات على عودة الحرب بالوكالة بين هذه القوى على أراضي دولة ثالثة، مثل أوكرانيا، وهو ما يصعد التهديدات النابعة من هذه المركبات المسيرة، خاصة إذا ما اتجهت الدول لتطويرها كسلاح فعال ضد خصومها، وهو ما يدفع الدول للتفكير كذلك في تطوير أنظمة مضادة للتعامل مع هذه التهديدات الجديدة الناشئة.
المراجع
1. National Research Council, Autonomous Vehicles in Support of Naval Operations (Washington, DC: The National Academies Press, 2006), p. 121.
2. USV (Unmanned Surface Vehicle), applications and advantages, embention, September 18, 2015. https://cutt.us/KCy6X
3. علي حمية، الأطر القانونية لاستخدام الأنظمة البحرية العسكرية غير المأهولة، مجلة الدفاع الوطني، العدد 110 (بيروت: تشرين الأول 2019)، ص6.
4. علي حمية، نفس المرجع، ص 7.
5. Rick Stella, Ghost Ship: Stepping Aboard the Sea Hunter, the Navy’s Unmanned Drone Ship, Digital Trends, April 11, 2016. https://cutt.us/U9TrN
6. US Department of the Navy, The Navy Unmanned Undersea Vehicle (UUV) Master Plan, 2004 (UUV Master Plan) (Defense Technical Information Center, 2004), p. 4. https://cutt.us/VHKRk
7. Ruth A. David, Paul Nielsen, Defense Science Board Summer Study on Autonomy, Defense Science Board Washington United States, 2016, pp. 61–62. https://apps.dtic.mil/sti/pdfs/AD1017790.pdf
8. Bruce Dorminey, How Bad Would It Be if the Russians Started Cutting Undersea Cables? Try Trillions in Damage, Forbes, 2 November 2015. https://cutt.us/Q8XIL
9. The future of maritime competition, The Military Balance, Vol 121, Issue 1, IISS, February 2021, pp. 9-22.
10. H I Sutton, China’s New Extra-Large Submarine Drones Revealed, navalnews, 16 Sep 2022. https://cutt.us/XDN6a
11. Ibid.
12. حرب الذكاء الاصطناعي: سلاح الصين للانتصار دون قتال، العين الإخبارية، 18 يونيو 2022. https://cutt.us/Ftuil
13. Ryan Fedasiuk, How China is Militarizing Autonomous Underwater Vehicle Technology, The Maritime Executive, AUG 22, 2021. https://cutt.us/VdmRT
14. Ryan Fedasiuk, How China is Militarizing Autonomous Underwater Vehicle Technology, The Maritime Executive, AUG 22, 2021. https://cutt.us/VdmRT
15. حرب الذكاء الاصطناعي، مرجع سابق.
16. نفس المصدر.
17. نفس المصدر.
18. H I Sutton, op.cit.,
19. أحمد جمال أحمد، 5 مركبات عسكرية: نجوم روسية في الذكرى 75 لاحتفالات عيد النصر، العين، 24 يونيو 2020. https://cutt.us/8Y5oZ
20. نفس المرجع السابق.
21. تركيا تُطلق مركبتين بحريتين جديدتين غير مأهولتين طراز «مير إيدا»، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 19 يونيو 2022.
https://cutt.us/ytL2p
22. S. Azad, P. Casari, M. Zorzi, Coastal patrol and surveillance networks using AUVs and delay-tolerant networking. In Proceedings of the IEEE Oceans—Yeosu, Yeosu, Korea, 21–24 May 2012; pp. 1–8.
23. J. Keller, Coast Guard Looks for Unmanned Ocean Vehicles to Hunt Smugglers, Poachers, and Icebergs, Military & Aerospace, 6 April 2014. https://cutt.us/L54C3
24. E. Petritoli, M. Cagnetti, F. Leccese, Simulation of Autonomous Underwater Vehicles (AUVs) Swarm Diffusion, Sensors 2020. https://cutt.us/cka4w
25. Dimitrios Eleftherakis, Raul Vicen-Bueno, Sensors to increase the security of underwater communication cables: A review of underwater monitoring sensors. Sensors 2020. https://www.mdpi.com/1424-8220/20/3/737