نشأة الأسطول الإسلامي وقصة فتح جزيرة (أرواد)

مشاركة الصفحة

​​

العقيد (م)

محمد بن فراج بن سامره

التاريخ العسكري هو سجل الخبرات والتجارب العملية التي حققتها الشعوب والدول مما خاضته من حروب ومعارك لتحافظ على وجودها واستمرارها، وتحفظ مكانتها ورفعتها بين غيرها من شعوب ودول العالم.

والتاريخ العسكري والتدريب المستمر هما المعين الذي يكسب القادة العسكريين ـ الذين لم يخوضوا معارك أو يشاركوا في عمليات حربية حقيقية ـ الخبرة القتالية التي يحتاجون إليها لخوض حروب المستقبل رؤية واعية متبصرة تجنبهم التعثر أو الوقوع في الخطأ، وقد أوجز (نابليون بونابرت) أهمية التاريخ العسكري للقادة العسكريين بقوله:«إقرأ تاريخ الحملات العسكرية، وأفعال قادتها وتصرفاتهم؛ ثم أعد قراءتها مرات ومرات دون كلل أو ملل، فهذه هي السبيل الوحيدة للإحاطة بأسرار فن الحرب». 

وانطلاقًا من أهمية التاريخ العسكري استحدثت المجلة هذا الباب الثابت لتطالع من خلاله (صفحات من التاريخ العسكري).

 وصل المسلمون في فتوحاتهم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى سواحل بلاد الشام، فافتتحوا مدنًا وموانئ على ساحل البحر الأبيض المتوسط كانت خاضعة للسيطرة البيزنطية، ولم يكن البيزنطيون ليسلموا بسرعة بخروج الساحل الشرقي للبحر الأبيض من أيديهم إذ كان معبرًا مهمًا لتجارتهم، ومرتكزًا لأساطيلهم وقوتهم البحرية في هذه المنطقة، ولذا بدأ منذ عهد الخليفة عمر (رضي الله عنه) الإحساس بأنه من الضروري إنشاء أسطول بحري للمسلمين يقف أمام الإمبراطورية البيزنطية، ويصد هجمات أساطيلها.

ويكاد فتح المسلمين الأول لجزيرة (أرواد) أن يكون من أقوى المواقع التي حدّت بالخليفة معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) إلى التفكير بإنشاء أسطول إسلامي، فقد ذُكر عنه أنه ألحّ على الخليفة عمر (رضي الله عنه) ليسمح له بركوب البحر وغزو البيزنطيين لمجاراتهم وصد غاراتهم البحرية ومقاتلتهم بسلاحهم نفسه، وكتب إليه يقول: «إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلاب الروم وصياح ديوكهم، وهم تلقاء ساحل من سواحل حمص».

ومن الواضح أن القرية المشار إليها لم تكن سوى جزيرة (أرواد)، ولكن الخليفة عمر كتب إلى معاوية يقول: «إنا سمعنا أن بحر الشام يشرف على أطول شيء في الأرض، يستأذن الله في كل يوم وليلة في أن يفيض على الأرض فيغرقها، فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستصعب، وتالله لمُسلم أحب إليّ مما حوت الروم فإياك أن تعرض لي…».

على أن خوف عمر (رضي الله عنه) من ركوب البحر لم يكن إلا من قبيل خوفه وحرصه على أرواح المسلمين، لأنه كان يرى أنه لا دراية لهم في صناعة السفن والقتال عليها، إذا لم يتعود العرب على فنون القتال البحري من قبل، وهو يحرمهم من مزاولة الفرّ والكرّ، وهي ميزتهم في القتال البريّ الذي برعوا فيه.

وبسبب سياسة عمر (رضي الله عنه) هذه انصرف الاهتمام إلى تحصين المدن الساحلية وترميم حصونها القديمة التي تركها العدو وسميت «أخائذ». كما أنشأوا «مناظر» كانت تتخذ للمواقيد والحفظة والمرابطة وحمايتها من غارات الروم المفاجئة. وكان معاوية (رضي الله عنه) قد كتب إلى الخليفة عمر بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان في طاعون عمواس سنة 18هـ يصف له حال السواحل، فكتب له إليه فيها وإقامة الحرس على مناظرها واتخاذ المواقيد لها، ولم يأذن له في غزو البحر (البلاذري).

وحدث في أواخر أيام عمر (رضي الله عنه) وأوائل عهد الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) أن غمرت موجة بيزنطية على الشام، وعمل البيزنطيون على تثبيت أقدامهم في مدن الساحل والتثبيت بها بفضل أسطولهم البحري، وألحقوا هذه الموجة بحملة بحرية استطاعوا أن يستعيدوا فيها مدينة الإسكندرية سنة 25هـ/645م. ووجد معاوية أن من الضروري إنشاء أسطول بحري للوقوف في وجه الخطر البيزنطي، والدفاع عن سواحل الشام ومصر وحماية المياه العربية من الأسطول البيزنطي، بل ضرب الأراضي البيزنطية نفسها لتأديبها ولمنع الغارات العدوانية التي تقوم بها.

ولقد نجح معاوية أخيرًا في إقناع الخليفة عثمان بسياسته البحرية رغم أن عثمان كان محترزًا في قراره بالموافقة، إذ قال لمعاوية: «لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم خيّرهم، فمن اختار الغزو طائعًا فاحمله وأعنه»، كما اشترط عليه في حملته على جزيرة قبرص أن يأخذ معه زوجته، وعلى من معه من القادة المسلمين أن يصطحبوا زوجاتهم كذلك.

فتح جزيرة (أرواد) 

عندما تم لمعاوية ما أراد من قيام الأسطول، استنّ في تاريخ العرب الحربي نظام الغارات البحرية إلى جانب الغارات البرية، وهي الغارات التي عرفت في المصادر التاريخية بـ(الصوائف والشواتي)، وكانت غزوة قبرص هي باكورة أعمال العرب في البحر الأبيض المتوسط «إذ لم يركب المسلمون بحر الروم قبلها». وكان غزو قبرص في سنة 28 هجرية / 649 ميلادية. حسب معظم الروايات، وفي سنة 25هـ. حسب رواية أبي زرعة الدمشقي في تاريخه المخطوط، وانتهت هذه الغزوة بعقد صلح بين أهل الجزيرة والمسلمين، على أن يؤدوا سبعة آلاف دينار للمسلمين سنويًا، ويؤدوا للبيزنطيين مثلها، وليس للمسلمين أن يحولوا بينهم وبين ذلك، على ألا يغزوهم، ولا يقاتلوا من ورائهم ممن أرادهم من خلفهم، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم، وأن يضع إمام المسلمين عليهم بطريقًا منهم. ولكن أهل الجزيرة أخلّوا بشروط هذا الصلح فهاجمها المسلمين في سنة 33هـ/ 654هـ. وفتحوها عنوة.

وكان حظ جزيرة (أرواد) الشامية، الواقعة تجاه مدينة أنطرطوس (طرطوس حاليًا) بين مدينتين: طرابلس وجبلة، مثل حظ جزيرة قبرص، إذ تعرضت لحملتين، كانت أولاهما بعد الحملة الأولى على قبرص سنة 29هـ. وقد حالت أسوارها المنيعة واستعدادات أهلها، واشتداد العواصف دون فتحها، وعاد عنها معاوية (رضي الله عنه) بعد عقد معاهدة مع أهلها، أما الحملة الثانية فكانت في السنة التالية، حيث عاد إليها معاوية بأوفر عدة وأقوى عزيمة، فشدد عليها الحصار حتى استسلم أهلها لقاء إعطائهم الحرية في الذهاب أنى شاءوا، فدخلها المسلمون، ثم دخلت في تبعية جند طرابلس الشام.

وتصمت المصادر التاريخية عن ذكر الجزيرة حتى عهد الحروب الصليبية، وإن كنّا نرجح أنها كانت تتعرض كغيرها من جزر البحر المتوسط ومدن الساحل الشامي لغارات الأسطول البيزنطي فيستولي عليها لفترة ثم يسترجعها المسلمون، حتى سقطت بيد الصليبين في سنة 493هـ/أول سنة 1100م. ودخلت في أقطاع فرسان الهيكل فأشادوا فيها قلعتين منيعتين وأسوارا ضخمة.

تحرير الجزيرة من الصليبيين

رغم طرد الصليبيين من آخر معقل كان لهم في الأرض العربية بعد سقوط مدينة عكا في يد سلطان المماليك الأشرف خليل بن قلاوون سنة 690هـ/1291م، إلا أن التواجد الصليبي لم ينته، فقد اتخذوا من جزيرتي: أرواد، وقبرص قاعدتين لانطلاق غاراتهم العدوانية على سواحل المسلمين في الشام ومصر. وكانت مدينة طرابلس الشام أكثر المدن والموانئ الإسلامية تعرضًا لتلك الغارات والاعتداءات وأعمال القرصنة، لكونها قريبة المنال من السفن الصليبية في الجزيرتين.

وإذا كانت فاتحة غارات الصليبيين العدوانية على ساحل الشام بعد طردهم منه هي الغارة التي قام بها فرسان الاسبتارية المتمركزين في أرواد على مدينة بيروت في سنة 698هـ/1299م تم نزولهم في بلدة «الدامور» بين بيروت وصيدا في سنة 702هـ/1302م. بالتواطؤ مع موارنة جبل لبنان، فإن المراكب التجارية التي كانت تخرج أو تأتي إلى طرابلس كثيرًا ما تتعرض لاعتداءات الفرنجة وقراصنتهم في البحر، حتى بلغ عدد الأسرى من المسلمين التجار الذين سجنوا في أوراد وحدها نحو (300) سجين. ويذكر «المقريزي» أن البريد قدم من طرابلس إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون في سنة 701هـ، يقول: «بأن الفرنج أنشأوا جزيرة وعمروها بالعدد والآلات، وكثر فيها جمعهم، وصاروا يركبون البحر ويأخذون المراكب، وكان صاحب قبرص قد اعتنى بها وبعمارتها مع جماعة من قادة الإفرنج على أنهم يتخذونها سكنا لهم، وأسموها «عكا الصغيرة».

وقد بنوا فيها سورًا وتحصنوا به وصاروا يخرجون منها ويقطعون الطرق على المسلمين المترددين في ذلك الساحل، حتى أصبحت مضرة على أهل طرابلس، مما دعا نائب السلطنة فيها وفي الحصون في ذلك الوقت الأمير سيف الدين أسندمر الكرجي لأن يكتب إلى السلطان الناصر ليمده بمراكب حربية يدفع بها عن المدينة والساحل غائلة الاعتداءات الصليبية، إذ لم يكن بمينائها ما يكفي من السفن الحربية للقيام بالهجوم على الجزيرة، بعكس ما كان عليه الحال في سنوات سابقة، إذ اعتمد المماليك فيها على الأسلوب الدفاعي، واكتفوا ببناء الأبراج على ساحلها، ولم يكن فيها سوى عدد ضئيل من المراكب الحربية مما كان يتيح للفرنجة مواصلة غاراتهم البحرية دون رادع.

وليس أدلّ على أن المماليك كانوا يهملون حتى هذا الوقت (مطلع القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي) العناية بإنشاء أسطول بحري، ما بدا واضحًا عندما وصل نداء (أسندمر) إلى مصر بإرسال أسطول إليه. إذ لم يكن للمماليك مراكب كافية، فقد بدأ العمل منذ ذلك الوقت بعمارة الشوانى وتجهيزها بالمقاتلة وآلات الحرب، وعندما أنجزت في شهر محرم من السنة التالية 702هـ. نزل السلطان والأمراء لمشاهدة الشواني الأربع، «واجتمع من العالم ما لا يحصيهم إلا الله تعالى، وبلغ كراء المركب الذي يحمل عشرة أنفس إلى مائة درهم». وامتلأ البران من بولاق إلى دار الصناعة بالناس، حتى لم يوجد موضع قدم خال.

ومهما يكن من أمر فقد أقلعت الشواني بقياده الأمير سيف الدين كهرادش الزراق المنضوري من مصر إلى ميناء طرابلس، وعندما وصلها أخذ منها (60) مقاتلًا، بالإضافة إلى عدد آخر من البحرية والمتطوعة. ويذكر النويري أن نائب طرابلس أستدمر جهز مركبًا فيه جماعة من الجند وانضم المركب إلى الشواني التي أتت مع كهرداش بينما توجه أستدمر بالعسكر إلى طرابلس بالبر الشرقي جنوبي أنطرطوس، وذلك ليسمك تلك الناحية على الفرنج في حال فرارهم من الجزيرة، ومعه الرئيس «البطرني المغربي» قاضي طرابلس.

أبحر كهرداش بالأسطول نحو الجزيرة وداهم الفرنجة صباحًا وهم في غفلة من أمرهم، فأحاطت قطع أسطوله بالجزيرة، وما لبث القتال أن نشب لساعة واحدة، وانتهى بعدها بانتصار المسلمين، وكان حصيلة الموقعة مقتل عدد كبير من الفرنجة قدرهم المؤرخون بنحو ألفين قتيل، مما أجبر الباقين من أهلها على طلب الأمان، فأخذوا أسرى. وفيما يقدرهم النويري والذهبي بنحو خمسمائة أسير، نرى المقريزي يقول: «إن عدد الأسرى مائتين وثمانين».

واستنقذ جميع من كان في الجزيرة من الأسرى المسلمين، وتم فتح الجزيرة وتحريرها من الصليبيين في يوم الأربعاء 2 صفر سنة 702هـ. وغنم المسلمون جميع ما في الجزيرة. وعادت الحملة بعد الفتح إلى طرابلس، حيث قام كهرداش بتقسيم الغنائم على المقاتلين وأخرج الخمس من الغنائم وجهزها لتحمل إلى السلطان في مصر. وكان فتح جزيرة أرواد حدثًا مهمًا بالنسبة للمسلمين، فما إن وصل البريد إلى القاهرة ببشائر الفتح حتى دقت البشائر بقلعة الجبل فرحًا بهذا الفتح المبين.

تجدر الإشارة إلى أن الدكتور محمد مصطفى زيادة ذكر في حاشية كتاب (السلوك) للمقريزي، معتمدًا على ما جاء في الموسوعة الفرنسية الكبرى، وكذلك إلى ما ذكره الدكتور علي إبراهيم حسن في (تاريخ المماليك البحرية) من أن المقصود بالفتح في سنة 702هـ/1302م هو جزيرة رودس، وأن الفرسان الاسبتارية أقاموا لبضع سنوات في جزيرة قبرص بعد خروج الصليبيين من عكا، ثم استولوا على جزيرة رودس وانتقلوا إليها سنة 709هـ/1309م.

إن القول بأن الجزيرة المقصودة هي (رودس) يتناقض مع الواقع إذ أن سير نائب طرابلس بقواته البرية إلى أنطرطوس يؤكد أن الجزيرة هي أرواد القريبة من طرطوس حاليًا وليست رودس. وقد يكون الخلط بين جزيرتي: رودس، وأرواد يعود إلى التحديد الغامض الذي أتى به ياقوت الحموى في معجمه، حيث يعرّف بأرواد على أنها «جزيرة في البحر قرب قسطنطينية، غزاها المسلمون وفتحوها في سنة 54 مع جنادة بن أبي أمية في أيام معاوية بن أبي سفيان…». ومن الواضح أن الجزيرة أوراد ليست قرب القسطنطينية، والجزيرة القريبة منها هي (رودس)، وهي التي فتحت في سنة 54هـ. 

وقد كان ذلك بداية نشأة الأسطول الإسلامي وتعزيز تواجده على سواحل البلاد الإسلامية.