تزايد اعتماد المجتمع الدولي على التكنولوجيا الفضائية أكثر من أي وقت مضى، ومن ثم تصاعدت عسكرة/ تسليح الفضاء بشكل متزايد لا سيما مع تعدد استخداماته للأغراض العسكرية والمدنية على حد سواء، وهي الاستخدامات التي تمخض عنها دعوات للهيمنة والسيطرة عليه صاحبها شكلًا جديدًا من أشكال سباقات التسلح؛ فعلى سبيل المثال، إن وضعت الولايات المتحدة الأمريكية أسلحة في الفضاء، ستتجه الدول الأخرى إلى تطوير أساليب مضادة لمهاجمة الأقمار الاصطناعية الأمريكية، وإن طورت تلك الدول الأخرى أنظمة مكافئة، سيبدأ سباق تسلح محتدم خوفًا من تحكم دولة بعينها في الفضاء، ليصبح تطوير الأسلحة الفضائية من قبل دول أخرى أمرًا لا مفر منه.(1)
تثير عسكرة الفضاء وجهود تسليحه إشكالات سياسية عدة يأتي في مقدمتها الكيفية التي تدرك بها دولة ما جهود دولة أخرى على صعيد استخدامات الفضاء لا سيما في ظل استخداماته المزدوجة؛ ذلك أن الليزر، على سبيل المثال، وإن اسُتخدم لأغراض الدفاع، فإنه يمكن توظيفه كسلاح هجومي بامتياز ضد أهداف فضائية أو أرضية، ومن ثم يصبح السؤال هو: كيف تدرك الولايات المتحدة نشر روسيا لسلاح فضائي قادر على استهداف الأراضي الأمريكية أو أصولها الفضائية؟ وهل يُعد ذلك استخدامًا «سلميًا» للفضاء طالما لم يُستخدم للأغراض الهجومية؟ وهل يمكن أن يؤدي نشر مثل هذه الأنظمة إلى سباق تسلح في الفضاء؟ إن تلك الأسئلة هي التي تدفع الدول لتطوير الأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية، وهي أيضًا مصدر مبدأ التحكم في الفضاء الذي يدفع مختلف الدول صوب سباق تسلح محتدم.(2)
القوة الفضائية في ميزان القوى الدولية
تصاعدت وتيرة الربط بين قضية أمن الفضاء الخارجي، والصراع على مقدراته من قبل قوى دولية تقليدية وأخرى صاعدة، وذلك من أجل الاستحواذ على «القوة الفضائية»، وفي ظل الأهمية الاستراتيجية لها، وظهور جيل جديد من «سباق الفضاء» يتميز بقوة النزوح نحو العسكرة، وحالة من «التعدد» في الفاعلين و«التصاعد» في التأثير، و«التنافس» بين الدول والشركات الخاصة، وهو ما كان له انعكاس ليس فقط على «الامن الفضائي» بل كذلك على الأمن الجماعي الدولي.
تحول الفضاء ــ كمجال دولي جديد ــ لساحة لصراع ذو أبعاد مختلفة منها ذات طابع تجاري وعلمي وعسكري، وتراوح الاستخدام بين أن يكون في خدمة أهداف قومية للدولة أو لتحقيق أهدافٍ إنسانية، وبين وجود حدود لذلك الاستخدام إلى وجود آفاق لا نهاية لها مع الطموح البشري واتساع الكون في الوقت ذاته، وعلى الرغم من إمكانية الفصل بين الطابع المدني والآخر العسكري توجد حالة أخرى للاستخدام المزدوج للأنشطة الفضائية، والتي يتم توظيفها عسكريًا في حماية الأمن القومي، والتكتيكات الحربية، والتجسس، وتأمين نظام الملاحة الجوية، والإنذار المبكر، والاتصالات العسكرية، وعلى المستوى المدني يتم استخدامه في البث الإذاعي والتليفزيوني، والاستشعار عن بعد، والأرصاد الجوية، ونظام تحديد المواقع العالمي، والاتصالات والإنترنت الفضائي.
وحمل بذلك الفضاء مضامين متعددة ذات طبيعة عسكرية ومدنية ــ اقتصادية ساهمت في بروز «القوة الفضائية «كنمط جديد يرتبط بـ«القوة الشاملة»، وسعت للاستحواذ عليها الدول الكبرى والصغرى في النظام الدولي على حد سواء، وبزغت متغيرات تعلقت، بالتالي:
1. تنامي العلاقة بين التكنولوجيا والأمن وأثرها في تطور القدرات الدفاعية أو الهجومية، وفي ظل دفع التوتر الدولي لعسكرة غير مسبوقة في حجم الإنفاق العسكري أو بتطور نشر الأسلحة أو التهديدات شملت كافة المجالات الدولية الخمس (البر والبحر والجو والفضاء الخارجي والفضاء السيبراني).
2. تصاعد الأهمية الاستراتيجية للفضاء مع بروز حوافز جديدة لمواجهة ندرة الموارد على الأرض واحتمالية وجود حياة وموارد خارجها، والتنقيب عن المعادن الثمينة أو الاستعمار الجديد للكواكب، وبخاصة القمر.
3. تميز الفضاء بخصائص فيزيائية مختلفة يجعله يتشابك وظيفيًا مع بقية المجالات الدولية، ويعزز من الانتقال في الفكر العسكري ــ الاستراتيجي من حقبة «القوة الجوية» إلى «القوة الفضائية»، والتحول من «السيطرة على الأجواء» إلى الاهتمام بـ«المجال الأعلى» في الفضاء.
4. دمج الدول للفضاء الخارجي في العمليات العسكرية التقليدية وفي استراتيجيات الأمن القومي، وهو ما أدى لتغيير مبادئ الحرب والأمن والدفاع والقوة والصراع.
اقتصاد الفضاء كمحرك جديد للتنافس الدولي
برز اقتصاد الفضاء باعتباره يلعب دورًا مهمًا في النمو الاقتصادي للعديد من الدول التي توفر منصات الإطلاق أو تصدير التقنيات اللازمة للدول الأخرى، الذي بات يُعرف بـ«اقتصاد الفضاء»، مدخلًا استراتيجيًا للاستحواذ على القوة الفضائية، ويشمل «اقتصاد الفضاء» نمطين: الأول: يرتبط بـ«اقتصاد الفضاء مقابل الأرض»، أي السلع أو الخدمات المنتجة في الفضاء للاستخدام على الأرض، ويشمل ذلك الاتصالات السلكية واللاسلكية والبنية التحتية للإنترنت وقدرات مراقبة الأرض، والأقمار الاصطناعية. أما النمط الثاني، فيرتبط بـ«اقتصاد الفضاء مقابل الفضاء»، أي السلع والخدمات المنتجة في الفضاء لاستخدامها في الفضاء، مثل تعدين القمر والكويكبات لاستخراج مواد يمكن استخدامها للبناء في الفضاء.
وقد شهدت السنوات الأخيرة ازدهار وتنامي فرص وإمكانات الاستثمارات في صناعة الفضاء من قبل الحكومات أو الشركات متعددة الجنسيات، ففي عام 2018م بلغ عدد الدول التي نجحت في الإطلاق إلى (82) دولة عام 2018م مقارنة بـ (50) دولة عام 2008م، وتم إطلاق (900) قمر اصطناعي في الفترة بين عامي 2014 ــ 2018م. وشهد عام 2018م أكبر عدد من عمليات الإطلاق المداري التي أجريت منذ عام 2000م بنحو (114) عملية إطلاق، وفي عام 2020م بلغ عدد الأقمار الاصطناعية التي أطلقتها فقط ثماني دول نحو (2,313) قمر اصطناعي، منها نحو (339) قمر اصطناعي للأغراض العسكرية،(3) وفي النصف الأول من عام 2022م تم إطلاق نحو (72) صاروخًا فضائيًا و(1022) مركبة فضائية، وقد دعمت الشركات التجارية نحو 90% من عمليات الإطلاق، والتي بلغت نحو (958) مركبة فضائية.
هذا في حين يوجد أكثر من عشرة آلاف شركة حول العالم، ونحو خمسة آلاف من كبار المستثمرين يشاركون في صناعة الفضاء، بقيمة إجمالية وصلت إلى (469) مليار دولار في عام 2021م، بارتفاع نسبته 9% مقارنة بعام 2020م، مثل الأقمار الاصطناعية للإنترنت التي أطلقتها شركة (Starlink Spacex)، والتي يملكها الملياردير الأمريكي إيلون ماسك، وبنهاية عام 2202م تم استثمار حوالي (265) مليار دولار في الشركات الناشئة في مجال الفضاء منذ عام 4102م، ووفقًا لشركة (Space CapitaI)، ذهب ما يقرب من نصف هذا المبلغ إلى شركات في الولايات المتحدة، بينما تم استثمار 03٪ أخرى في الشركات الصينية.(4)
وعلى الرغم من أن إطلاق الصواريخ في المدار هو عمل مكلف إلى درجة أن وكالات الفضاء الحكومية أو الشركات ذات الصلة بالحكومة هي التي قامت حتى الآن بنقل رواد الفضاء أو الأقمار الاصطناعية إلى الفضاء، فلا تزال صناعة سياحة الفضاء الخاصة تزدهر في العامين الماضيين، حيث توفر شركات، مثل: (Virgin Galactic) لريتشارد برانسون، وشركة (Blue Origin) لجيف بيزوس، و(SpaceX) لدرجات متفاوتة من السفر الفضائي شبه المداري، وفي عام 2022م، ووفقًا لـ(Bryce Tech)، أطلق أحد عشر مزودًا خاصًا (94) صاروخًا، من بينها قامت شركة (SpaceX) وحدها بإرسال (61) صاروخًا إلى المدار.(5)
يقارن ذلك مع (71) عملية إطلاق من قبل وكالات الفضاء أو الشركات ذات الصلة بالحكومات، والشركات الرائدة في هذه الفئة هي الشركة الرئيسة لبرنامج الفضاء الصيني (مؤسسة علوم وتكنولوجيا الفضاء الصينية) بنحو (35 إطلاقًا)، تليها وكالة الفضاء الروسية (Roscosmos) بنحو (21 عملية إطلاق)، ومع ذلك، غالبًا ما يكون القطاعان العام والخاص متشابكين بدلاً من الفصل بينهما بشكل صارم، فعلى سبيل المثال، حصلت شركة (SpaceX) على عقود من وكالة الفضاء الأمريكية ناسا،(6) بقيمة (2) مليار دولار في السنة المالية للوكالة 2022م وحدها.(7)
وقد زادت الاستثمارات المدعومة من الدول في مشروعات الفضاء حول العالم، ففي عام 2021م كان هناك ارتفاع بنسبة 19% في الإنفاق الحكومي الإجمالي على برامج الفضاء العسكرية والمدنية على مستوى العالم، وهو أسرع معدل نمو منذ عام 2014م، ورفعت الهند، على سبيل المثال، إجمالي انفاقها على الفضاء إلى 36%، والصين إلى نحو 23%، بينما ضخت الولايات المتحدة الأمريكية استثمارات بزيادة قدرها 18% وبما يعادل 12% من الإنفاق العالمي على الفضاء، ومن المتوقع أن ينمو اقتصاد الفضاء إلى (640) مليار دولار بحلول عام 2026م، وبحلول عام 2030م يتوقع أن ينمو بنسبة 75%، ليصل إلى (642) مليار دولار، ثم إلى تريليون دولار بحلول عام 2040م، كما من المتوقع أن تصل قيمة سوق السفر والسياحة الفضائية إلى (23) مليار دولار بحلول عام 2030م.
اتجاهات تنامي العسكرة وسباق التسلح الفضائي
تسابقت العديد من الدول للاستحواذ على «القوة الفضائية» منذ إطلاق القمر الصناعي «السوفيتي» عام 1957م، وأعقب ذلك الجهود الأمريكية بإطلاق المركبة ابولو للقمر في عام 1969م، وتميز سباق التسلح في الفضاء خلال حقبة الحرب الباردة بالتنافس في ميادين الدفاع، وكانت جزءًا من عمليات لحرب نفسية متبادلة، وفيما عرف آنذاك بـ«حرب النجوم»، وعدم تبلور فكرة نشر دروع مضادة للصواريخ في الفضاء، وانحسار النشاط الفضائي في قوتين، وأعقب ذلك قيام كل قوة بدعم حلفائها في مجال تبني البرامج الفضائية في إطار ما عرف بحروب الوكالة، ودخل بعد ذلك العديد من الدول للنادي الفضائي بتبني مشروعات وطنية أو بالتعاون مع القوى الكبرى الحليفة، ومازالت تحتفظ الولايات المتحدة بالهيمنة الفضائية بامتلاكها ما يزيد على 50% من الأقمار الاصطناعية.(8)
وجاء تطور «الجيل الجديد» من سباق تسلح الفضاء ليتميز بعدة خصائص لعل أهمها:(9)
ــ تصاعد استخدام الأقمار الاصطناعية في العمل الاستخباراتي والحروب النفسية والإعلامية بين القوى الدولية أي عبر التوظيف العسكري للقوة «الناعمة».
ــ توظيف الأقمار الاصطناعية في العمل العسكري سواء على المستوى التكتيكي أو الاستراتيجي أو العملياتي، وتطوير ونشر واستخدام الأسلحة الدفاعية والهجومية التي تستهدف البنية التحتية الفضائية لدول أخرى.
ــ التحول إلى رقمنة الأقمار الاصطناعية ليتواكب مع التقدم في مجال تكنولوجيا الاتصال والإنترنت، والتطور في الإطلاق والتشغيل.
ــ اتجاه الدول لامتلاك وتطوير التقنيات المستخدمة في الخداع أو التعطيل أو التدمير للأنظمة الفضائية الأخرى، للدفاع عن بنيتها التحتية أو لتحقيق أهداف استراتيجية، ومواجهة خطر الأسلحة الباليستية أو للمساعدة في عمل حربي على الأرض أو ضمان حرية الملاحة الفضائية.
ــ تحسين القدرة في التحكم والسيطرة بالقوة الفضائية بامتلاك نظم عسكرية «تسلح» أو «قواعد» في الفضاء، وظهرت وفق اعتبار مكان تواجد الهدف أو بمكان وجود «السلاح» أنماط جديدة منه (سلاح فضاء ــ فضاء، فضاء ــ أرض، أرض ــ فضاء وأرض ــ أرض (عبر الفضاء).
ــ التغير في طبيعة السلاح «الفضائي» من اعتماده على قوة النيران إلى القدرات السيبرانية التي تمكنه من التعمية والاختراق والتشويش للأقمار الاصطناعية. وأخذ «السلاح الفضائي» طبيعة متحركة تكتسب قوتها بالاصطدام بالهدف وتدميره، أو بتوظيف أشعة الليزر أو الموجات الكهرومغناطيسية، تدمير الألواح الشمسية للأقمار الاصطناعية المعادية أو بتحويل مفردات الطبيعة الفضائية لاستحداث الظواهر الطبيعية كالرعد والعواصف والأعاصير والزلازل بشكل اصطناعي «غاز الكيمتريل».
وعلى الرغم من غلبة الطابع العسكري على تلك الأسلحة إلا أنه يمكن أن تستخدم كذلك في مهام مدنية، كتدمير نيازك مدمره تسقط على الأرض.
مؤشرات تنامي العسكرة في الفضاء الخارجي
على الرغم من كون الدول هي المستثمر الرئيس في الأنشطة الفضائية إلا أن مركزها يشهد حالة من التراجع لصالح القطاع الخاص في ظل عولمة النشاط التجاري، وأدت الزيادة في الفاعلين أو الأنشطة لزيادة مقابلة في المكاسب وأخرى في المخاطر المرتبطة بالصراع.
وشملت اتجاهات تنامي العسكرة، أولاً: دعم عمليات الحفاظ على القوة الفضائية بإطلاق الصواريخ أو أقمار اصطناعية حول الأرض. وثانيًا: استخدام مقدرات الفضاء في تعزيز العمل العسكري على الأرض. وثالثًا: تعزيز قدرات الحماية والردع والرقابة لضمان أمن الملاحة الفضائية ومنع الأعداء وتمكين الأصدقاء.
ومن أهم مؤشرات السباق نمو مجال استكشاف الفضاء بين القوى الدولية، مثل: تحقيق الصين الوصول للمريخ، وأن تصبح «قوة فضائية كبرى» بحلول عام 2030م،(10) ودول أخرى، مثل: روسيا وإسرائيل والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل، وظهرت قوة صاعدة، مثل: المكسيك وجنوب افريقيا وإيران وسنغافورة ونيجيريا والأرجنتين، ويشهد الفضاء الآسيوي حالة غير مسبوقة من التنافس انعكاسًا لحالة التوتر حول الحدود والمصالح بين القوى الإقليمية، مثل: الهند وباكستان.(11)
ومن أهم مؤشرات عسكرة الفضاء إنشاء الولايات المتحدة رسميًا جيش خاص في أغسطس 2019م، وإعلان فرنسا تشكيل قيادة عسكرية للفضاء في يوليو 2019م، وقيام عدد آخر من الدول، مثل: روسيا والصين بإجراء تجارب لاختبار قدراتها الصاروخية في الفضاء الخارجي، وفي نهاية مارس 2019م، أطلقت الهند صاروخًا مضادًا للأقمار الاصطناعية على خطى إطلاق الصين ذلك عام 2007م، وهو ما أقلق المجتمع الدولي، وبخاصة مع إمكانية انتقال عمل الأقمار الاصطناعية العسكرية من العمل الاستخباراتي، وجمع المعلومات إلى الدخول في العمل المادي الحربي، وتشير التقديرات إلى أن تطوير تقنيات تسليح الأقمار الاصطناعية سيتم بحلول العام 2030م.
وعلى الرغم من عدم ظهور القدرة على تحويل الفضاء كمنصة لإطلاق النيران على الأرض إلا أن المخاوف بشأن ذلك تتصاعد، ويرجع ذلك للأسباب التالية:(12)
1. لكون الفضاء الخارجي مرفق دولي مشاع للاستخدام لكافة الفاعلين سواء من الدول أو من غيرهم.
2. زيادة التوجه لدى الدول الكبرى في مجال القوة الفضائية لإقامة قواعد ثابتة على القمر.
3. التطور في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، التي يمكن أن تحمل رؤوس نووية.
4. عدم وجود قدرات كبرى في مجال الدفاع عن البنية التحتية الفضائية ضد الهجمات المحتملة، مثل موقف الولايات المتحدة على الرغم من هيمنتها.
5. دخول لاعبين من غير الدول في مجال الاستخدامات الفضائية، وبخاصة الشركات الخاصة، التي لا تخضع لالتزامات القانون الدولي المبرمة، مثل دور الشركات الأمريكية كشركة (SpaceX) أو شركة (Virgin Orbit) أو شركة (Blue Origin).
إن حال اللايقين بمدى ما وصلت إليه الدول من أبحاث في تطوير أسلحة فضائية يدفع البقية إلى الاستثمار فيها لتحقيق ردع مفترض ضد احتمال التعرض للهجمات.
أتاحت تكنولوجيا الفضاء تنامي القدرات الذاتية للدول، بعد أن كانت صعبة الوصول نتيجة التقدم في مجال التكنولوجيا والمعرفة وتقليل التكلفة وسهولة الاستخدام.
القانون الدولي ومنع عسكرة الفضاء
من شأن حالة التصاعد من جهة للاستخدامات العسكرية المتطورة للفضاء إلى جانب عدم مواكبة القانون الدولي لتلك التطورات، أن يؤثر في مفردات «الأمن الفضائي» كجزء من الأمن الجماعي الدولي.
ورغم وجود خمس اتفاقيات أممية تنظّم جانبًا من جوانب استخدام الفضاء الخارجي، وأشهرها اتفاقية المبادئ الحاكمة لأنشطة الدول في استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي التي دخلت حيز التنفيذ عام 1967م؛ إلا أن المجتمع الدولي يفتقر لوجود أي اتفاقية عالمية ملزمة تحظر وضع الأسلحة في الفضاء الخارجي.
ففي الوقت الذي تدفع فيه الدول الغربية لتبني مبادئ وأعراف غير ملزمة لتشجيع السلوك المسؤول للدول في الفضاء الخارجي (Responsible State Behavior)، تقوم دول، مثل: روسيا والصين وحركة عدم الانحياز، بالدفع في اتجاه التوصل إلى صك قانوني مُلزِم يحرّم وضع الأسلحة في الفضاء، وذلك خشية من الفجوة التكنولوجية التي قد تحققها الولايات المتحدة ــ وهي قريبة جدًّا منها ــ أو أوروبا في هذا المجال.(13)
وتتمثل أهم وأحدث هذه الجهود في الآتي: مشروع اتفاق روسي ــ صيني بشأن «منع نشر الأسلحة في الفضاء الخارجي»، ففي عام 2008م قدّمت كل من: الصين وروسيا مشروع معاهدة إلى مؤتمر نزع السلاح بعنوان: «معاهدة منع نشر الأسلحة في الفضاء الخارجي، والتهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد الأجسام الموجودة في الفضاء الخارجي» (PPWT)، ثم قدمتا نسخة جديدة منه في عام 2014م على أمل حشد الدعم الدولي المطلوب، وتؤكد المعاهدة على أهمية إخلاء الفضاء الخارجي من الأسلحة، وتحدد المصطلحات ذات الصلة مثل: «الأسلحة في الفضاء الخارجي»، كما تقترح إنشاء بروتوكول إضافي لإنشاء «تدابير للتحقق من الامتثال للمعاهدة»، وعلى الرغم من تقديم مشروع الاتفاقية بشكل سنوي في جنيف؛ إلا أنه يلقى معارضة كبيرة من كل الدول الغربية، الأمر الذي يحول دون تحولها لاتفاقية إطارية ملزمة للجميع.(14)
بالإضافة إلى المبادئ الاسترشادية للأنشطة الفضائية المستدامة طويلة الأمد، حيث قامت لجنة الاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي (COPUOS) التابعة لمكتب الأمم المتحدة للفضاء الخارجي (UNOOSA) في فيينا، بصياغة ما يُعرف بـ«المبادئ الاسترشادية للأنشطة الفضائية المستدامة طويلة الأمد» في عام 2018م، والتي تقوم بوضع القواعد العامة للاستخدامات السلمية للفضاء ووصول كافة الدول إلى مصادر النفع المشترك به، وعلى الرغم من تشجيع الدول الغربية للوثيقة، فإنها تبقى وثيقة استرشادية غير ملزمة، فضلًا عن كونها تناقَش في إطار اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة التي تناقش المسائل السياسية الخاصة، وليس في إطار اللجنة الأولى المعنية بمسائل الأمن الدولي ونزع السلاح، وهو ما يعد تفريغًا لسباق التسلح في الفضاء من مضمونه.(15)
كما توصلت الولايات المتحدة إلى معاهدة ستارت الجديدة مع روسيا التي وقّعها كل من الرئيسين: «أوباما» و«مدفيديف»، في أبريل 2010م، في براغ، التي تنص على تخفيض الحدود القصوى للرؤوس الحربية الهجومية الاستراتيجية للبلدين بنسبة30%، وكذلك الحدود القصوى لآليات الإطلاق الاستراتيجية (بما فيها المخصصة لاستهداف أهداف فضائية) بنسبة 50% مقارنةً بالمعاهدات السابقة، وبرغم سريان هذا الاتفاق، فإنه لا يضمن عدم قيام دول أخرى بتطوير قدرات صاروخية باليستية قد تُستخدم في الفضاء في المدى المنظور، كما أن توجه الرئيس الأمريكي السابق (ترامب) للانسحاب من اتفاقيات ضبط التسلح مع روسيا منذ بداية حكمه (وآخرها الانسحاب من اتفاقية الأجواء المفتوحة في مايو 2020م) قد يُنذر بعدم تمديد الاتفاق المُشار إليه.
مستقبل عسكرة الفضاء الخارجي
دفعت حقيقة أن تكنولوجيا الفضاء أصبحت في متناول الجميع، إلى اتساع مستمر في قدرات واستخدامات الدول، وهو ما يفرض المزيد من التعاون الدولي وأهمية ترشيد الاستخدام لمواجهة الأخطار ذات الطبيعة العالمية، وتحديد كيفية تنظيم الاستخدام من قبل الدول من جهة والشركات الخاصة من جهة أخرى، وبخاصة مع انتقال الشركات من مرحلة تقديم المنتجات والخدمات الفضائية إلى القيام بالاستكشاف إلى ما وراء مدار الأرض المنخفض بموافقة الدولة، وأصبحت تتطلع تلك الشركات إلى تجاوز مدار الأرض، وهو التطور الذي يمكن أن يقلل من دور الدول في مجال الفضاء لصالح القطاع الخاص، في ظل اختلاف الدافع ما بين الطابع السياسي والآخر التجاري.
وتواجه عملية التحكم أو السيطرة على سابق التسلح في الفضاء بتحديات ترتبط باختلاف طبيعته عن غيره من المجالات الدولية الأخرى، التي يمكن إخضاعها للسيطرة المادية وسهولة المراقبة والتفتيش، وصعوبات تتعلق بكون الفضاء مشاعًا ولا يستطيع أحد ادعاء تملكه أو ممارسة سيادة الدولة عليه، وتعاني الولايات المتحدة من نقطة ضعف استراتيجية على الرغم من هيمنتها، تتمثل في عدم امتلاكها منصات لحماية أقمارها من أي اعتداء أو هجوم يكون مصدره الفضاء، وتحاول منع محاولة إعاقة أنشطتها الفضائية من قبل دول أخرى.
ويفرض امتلاك دول لأسلحة فضائية أن يعرض أي دولة تمتلك «بنية فضائية» لخطر الهجوم، أو أن تصبح هدفًا له في حالة النزاع المسلح «على الأرض»، واحتمال تجاوز تأثير ذلك طرفي أو أطراف الصراع المفترضين لتصيب كافة أنظمة البنية الفضائية المدنية الكونية، وهو ما يكون له تداعيات مختلفة على المجتمع الدولي قاطبة، ويأتي هذا في إطار تطور الفكر الاستراتيجي العالمي المتمثل في أن من يستطيع السيطرة على مائة كيلو في محيط الكرة الأرضية إلى جانب القمر يمكنه السيطرة على الأرض ، وبخاصة مع دخول دول جديدة النادي الفضائي الدولي، وهو ما سيعمل من جهة على صعوبة السيطرة على السلوك الدولي ويكسر من جهة أخرى احتكار القوى الكبرى التقليدية له، وهو ما يدفع لأهمية الحفاظ على الاستخدام السلمي للفضاء في ظل فوضي الاستخدام وعدم تطبيق القانون الدولي.(16)
وأهمية التوصل لمعاهدات لمنع مضادات الأقمار الاصطناعية، والأسلحة المنشورة في الفضاء، وضمها إلى اتفاقيات الحد من التسلح، إلى جانب الإجراءات الطوعية لبناء الشفافية والثقة المتبادلتين، وتفعيل اتفاقية عام 1976م، وتعزيز دور الأمم المتحدة والمجتمع المدني العالمي والرأي العام والإعلام لفرض قيود على مثل ذلك التطور المدمر لأمن واستقرار المجتمع الدولي.
وترسيخ قواعد لحماية البنية التحتية في الفضاء الخارجي من خطر القصف أو التدمير، ومواجهة الأخطار الكونية، مثل التغير المناخي والمخلفات الفضائية، ومواجهة تحدي تحول الهدف من السيطرة على القمر أو استكشاف الكواكب خارج المجموعة الشمسية إلى مجال لممارسة الهيمنة والسيطرة من جانب الدول الكبرى. وهو ما يتطلب أن يكون الفضاء مجالًا للتعاون والتكامل، وترسيخ اعتباره مرفقًا دوليًا وتراثًا مشتركًا للإنسانية.
وإلى جانب ذلك، هناك قضية رئيسة تلقي بظلالها على المجتمع الدولي، فقد اتضح أنه بعد تلويث كوكبنا، نحن الآن نلوث الفضاء، فالآلاف من قطع الحطام من الأقمار الاصطناعية المعطلة والمعززات الصاروخية واختبارات الأسلحة التي أطلقت على مر العقود عالقة في المدار، مما تسبب في حدوث فوضى لا يمكن أن تصطدم بالأقمار الاصطناعية النشطة التي نحتاجها لمراقبة الأرض فحسب، بل أيضًا إطلاقها للمواد الكيميائية الضارة في الغلاف الجوي، لأنها تحترق عند العودة، مما يؤدي إلى استنفاد طبقة الأوزون، فضلًا عن احتمال خلق مشاكل لعمليات الإطلاق المستقبلية واستكشاف الفضاء.(17)
وتأتي معظم النفايات الفضائية من ثلاث دول: روسيا والولايات المتحدة والصين.
في نوفمبر 2022م، فجرت روسيا أحد أقمارها الاصطناعية القديمة باستخدام سلاح مضاد للأقمار الاصطناعية (ASAT)، مما أدى إلى إرسال آلاف القطع من الحطام إلى المدار، وتقدر مؤسسة العالم الآمن (Secure World Foundation) أنه تم إجراء ما لا يقل عن (16) اختبارًا للأسلحة المضادة للسوائل لإنشاء الحطام حتى الآن، ويأتي أكثرها ضررًا ما نفذته الصين في عام 2007م، حيث أسقطت أحد أقمارها الاصطناعية، مما أدى إلى ما يقدر بنحو (3000) قطعة من الحطام، ومع ذلك فقد كانت الولايات المتحدة هي التي أنشأت أول اختبار (ASAT)، في الخمسينيات من القرن الماضي، ووفقًا لـ(Data Center Dynamics)، أجرت الولايات المتحدة منذ ذلك الحين ثلاثة اختبارات على الأقل لإنشاء حطام (ASAT)؛ اثنان في منتصف الثمانينيات وواحد في عام 2008م.
ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تواجه إزالة الحطام النشطة العديد من «التحديات التكنولوجية والجيوسياسية والاقتصادية»، ويُعد تصنيع وإطلاق مركبات إزالة الحطام أمرًا مكلفًا، وإذا حدث خطأ، فهناك خطر خلق المزيد من الحطام، علاوة على ذلك يشرح محللو منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي: «استرجاع الحطام يمكن أن يشمل مشاركة البيانات التي يحتمل أن تكون حساسة حول تصميم جسم الحطام التي يمكن أن تشمل الأمن القومي والسياسة الخارجية والملكية الفكرية، لذلك، من الناحية الواقعية ستقتصر البلدان على إزالة حطام الأقمار الاصطناعية أو تلك الخاصة بالحلفاء العسكريين المقربين لها».
الخاتمة
أضحى الفضاء الخارجي مسرحًا لمنافسة القوى الفضائية الكبرى، وأضحت عسكرته أمرًا واقعًا يؤجج احتمالات الصراع في المستقبل على حساب البشرية جمعاء، لا سيما في ظل تنامي المشاعر العدائية، وتبني السيناريو الأسوأ لا التعايش السلمي بين الدول في اتجاه مضاد لما تنص عليه معاهدة الفضاء الخارجي.
وبينما تنشد القوى الفضائية الكبرى على قمة التسلسل الهرمي التكنولوجي أكثر الأساليب عدوانية لتسليح الفضاء سعيًا وراء السيادة (الولايات المتحدة والصين) أو التكافؤ الاستراتيجي (روسيا)، تتباين مصالح القوى المتوسطة بين الرغبة في قيادة خطاب معياري وأمني جديد (الاتحاد الأوروبي)، والتحول إلى قوة إقليمية (الهند) والحفاظ على الأمن القومي من خلال تعزيز التحالف مع الولايات المتحدة (اليابان).
المصادر
1-John Pike, Essay 3. The Paradox of Space Weapons, Military Spending and Armaments, Stockholm International Peace Research Institute, 2002, p. 435. https://cutt.us/WSS7Z
2 – Richard S. Stapp, Space Dominance Can The Air Force Control Space?, A Research Paper Presented To The Research Department Air Command and Staff College In Partial Fulfillment of the Graduation Requirements of ACSC, Air Command and Staff Coll Maxwell AFB AL, March 1997, pp. 14-15. https://cutt.us/G5xWA
3 – Katharina Buchholz, The Countries with the Most Satellites in Space, Statista, Jul 14, 2020. https://cutt.us/CbadA
4 – Anna Fleck, The U.S. and China Lead The Space Race 2.0, statista, Nov 7, 2022, https://www.statista.com/chart/28667/countries-are-leading-the-space-race-20/
5 – Florian Zandt, SpaceX Doubles Number of Rocket Launches, statista, Mar 1, 2023. https://cutt.us/L4aAb
6 – تعتبر SpaceX حالياً الشركة الرائدة من حيث عدد عمليات إطلاق المركبات الفضائية. تشتهر الشركة بعدد من المشاريع ، بما في ذلك توفير رحلات إمداد إلى محطة الفضاء الدولية (ISS)، حيث رست أول رحلة مأهولة هناك في نهاية مايو 2020. سبيس إكس هي أيضًا رائدة أقمار ستارلينك الصناعية ، والتي تعتبر منخفضة تهدف الأقمار الصناعية المدارية إلى توفير الإنترنت عريض النطاق للمجتمعات التي لديها اتصال ضئيل أو معدوم. اعتبارًا من أغسطس 2022 ، دار حوالي 2800 من الأقمار الصناعية Starlink التابعة لشركة SpaceX حول الأرض. ومن المقرر أن يرتفع هذا العدد إلى 12000 في السنوات القادمة. أنظر: Anna Fleck, The U.S. and China Lead The Space Race 2.0, statista, Nov 7, 2022, https://cutt.us/kXAih
7 – Florian Zandt, SpaceX Doubles Number of Rocket Launches, statista, Mar 1, 2023. https://cutt.us/qQJTJ
8 – محمد أبو سعده، عسكرة الفضاء ـ سباق تسلح أم جولة صراع؟، المعهد المصري للدراسات، 24 يناير 2020.
9 – Johnny Wood, The countries with the most satellites in space, World Economic Forum, Mar 4, 2019. https://cutt.us/gfnyg
– ميشال أبو نجم، التنافس الأميركي ـ الصيني للهيمنة على العالم، صحيفة الشرق الأوسط، 26 مايو 2020.
10 – James A. Lewis, Space Exploration in a Changing International Environment (Washington: The CSIS Strategic Technologies Program, July 2014).
11 – رغدة محمود البهي، عسكرة الفضاء الخارجي: رؤية تحليلية، مجلة كلية السياسة والاقتصاد العدد السادس عشر (القاهرة: أكتوبر 2022)، ص 461-462.
12 – د. يوسف داوود، هل يمكن التوصل لآليات دولية للتسلح الفضائي؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 24 سبتمبر، 2020. https://cutt.us/af6aL
13 – نفس المرجع السابق.
14 – نفس المرجع السابق.
15 – رغدة محمود البهي، عسكرة الفضاء الخارجي: رؤية تحليلية، مجلة كلية السياسة والاقتصاد العدد السادس عشر (القاهرة: أكتوبر 2022)، ص 461-462.
16 – Dan Swinhoe, US announces self-imposed ban on debris-creating ASAT tests, Data Center Dynamics, April 19, 2022. https://cutt.us/Tos2c
17 – Ibid.