التاريخ العسكري هو سجل الخبرات والتجارب العملية التي حققتها الشعوب والدول مما خاضته من حروب ومعارك لتحافظ على وجودها واستمرارها، وتحفظ مكانتها ورفعتها بين غيرها من شعوب ودول العالم.
والتاريخ العسكري والتدريب المستمر هما المعين الذي يكسب القادة العسكريين ـ الذين لم يخوضوا معارك أو يشاركوا في عمليات حربية حقيقية ـ الخبرة القتالية التي يحتاجون إليها لخوض حروب المستقبل رؤية واعية متبصرة تجنبهم التعثر أو الوقوع في الخطأ، وقد أوجز (نابليون بونابرت) أهمية التاريخ العسكري للقادة العسكريين بقوله:اإقرأ تاريخ الحملات العسكرية، وأفعال قادتها وتصرفاتهم؛ ثم أعد قراءتها مرات ومرات دون كلل أو ملل، فهذه هي السبيل الوحيدة للإحاطة بأسرار فن الحربب.
وانطلاقًا من أهمية التاريخ العسكري استحدثت المجلة هذا الباب الثابت لتطالع من خلاله)صفحات من التاريخ العسكري).
هيئة التحرير
تمتاز بعض المعارك في تحديد مسار الحرب، وتغيير مسار التاريخ، وهذا ما ينطبق على معركة (كورسك)، التي تعدّ من أكبر المعارك البرية في التاريخين القديم والحديث، والتي حددت مسار الحرب العالمية الثانية ونتائجها. حدثت معركة (كورسك) بين القوات الألمانية والقوات السوفيتية، خلال الفترة ما بين (5 يوليو ــ 23 أغسطس) 1943م.
تعتبر هذه المعركة من أكبر معارك الدبابات التي شهدها التاريخ؛ وذلك نتيجةً إلى أن القوات الألمانية استخدمت 50% مما تمتلكه من دبابات. وتعدّ هذه المعركة آخر محاولات الهجوم المعاكس الألماني على الجبهة الشرقية بعد الانتصار الحاسم الذي أحرزه السوفييت في معركة ستالينغراد.
ميزان القوى
ــ القوات الألمانية: بلغ عدد أفرادها حوالي (912.5) ألف، فيما بلغ عدد الأسلحة المستخدمة: (2920) دبابة، و(9900) مدفع، و(2110) طائرة من مختلف الأنواع.
ــ القوات السوفيتية: بلغ عدد أفرادها (1.9) مليون، فيما بلغ عدد الأسلحة المستخدمة: (5100) دبابة، و(25) ألف مدفع، و(3500) طائرة. وقد قامت القوات السوفيتية بتشكيل خمسة خطوط دفاعية من الخنادق والألغام المضادة للأفراد والدبابات والأسلاك الشائكة.
تشيكل القوات المتحاربة
ــ القوات الألمانية: انقسمت القوات الألمانية إلى قسمين: الأول هو الجيش الشمالي بقيادة الفيلد مارشال (جونتر فون كلوج)، والثاني الجيش الجنوبي بقيادة الفيلد مارشال (إريك فون مانشتاين)
ــ القوات السوفيتية: حشدوا السوفييت للمواجهة عشرة جيوش ميدانية تحوي حوالي (80) فرقة بالإضافة إلى (4) جيوش جوية.
قبل المعركة
في 4 يوليو، بدأت المناوشات الأولية من خلال قيام القوات الألمانية بالهجوم على الدفاعات الأمامية الروسية وأبراج المراقبة الموزعة على التلال القريبة، وقد تزامن ذلك مع قصف عنيف من المدفعية والطيران الألماني للتحصينات السوفيتية، ومحاولات التقدم على النطاقين الشمالي والجنوبي.
وعند الساعة (22:30) انطلقت المدفعية السوفيتية في قصف شامل للقوات الألمانية وذلك لإحداث الفوضى في صفوفها وتعطيل هجومها، غير أن القسم الأكبر من التواجد العسكري الألماني لم يكن قد بدأ في التقدم حتى تلك اللحظة.
وفي 5 يوليو بدأت المعركة الفعلية حيث بلغ الاشتباك ذروته بين سلاحي الجو الألماني والسوفيتي، وذلك بحثًا عن التفوق والسيطرة الجوية على سماء الجبهة، وعلى الرغم من التفوق النسبي لسلاح الجو الألماني إلا أن الطرفان لم يحققا تفوقًا جويًا مطلقا.
بداية الهجوم
بدأ سلاح الجو الألماني الهجوم معتمدًا على ما يسمى بـ(لوفتفافه)، وهو أحد فروع القوات الجوية وأكثرها مهارة وتدريبًا، وعلى طائرات (البي أف 109)، وطائرات الستوكا المضادة للدبابات.
وقد حقق الألمان انتصارات حاسمة، على التفوق العددي الواضح للقوة الجوية السوفيتية، فقد تمكّنوا من تدمير أكثر من (300) مقاتلة سوفيتية من طراز (إليوشين ــ 2)، وتدمير مئات الدبابات السوفيتية، واستطاع (اللوفتفافه) تمهيد الطريق من (اوريل) إلى (كورسك).
وفي الساعة الثانية صباحًا من يوم 5 يوليو، بدأت القوات الروسية الهجوم مستخدمةً المدفعية والكاتيوشا، وكان الهجوم موجهًا ناحية الجيوش الشمالية الألمانية، بناءً على معلومات مغلوطة تفيد بأن التجمعات الألمانية الكبيرة موجودة هناك حيث سيبدأ الغزو الألماني، ورغم أن عدد الجيوش الألمانية الشمالية كانت أكبر عددًا بالفعل، إلا أن الجيوش الألمانية الجنوبية كانت تمتلك تجهيزًا أفضل، فقد كانت تضمّ معظم دبابات (التايجر) و(البانزر مارك ـ 5). أما الرد الألمان، الذي استمر ما يقارب (80) دقيقة، فقد كان بعد الهجوم السوفيتي بثلاث ساعات، ولكن، ومع عدم وضوح الرؤية، فإن قصف أيًا من الطرفين لم يكن دقيقًا.
ومع طلوع شمس اليوم التالي قررت القوات الجوية السوفيتية أن تكون صاحبة السبق والمباغتة، فقامت بعدة غارات جوية على مواقع القوات الجوية الألمانية، التي كانت لها بالمرصاد، وجرت بين الطرفين المتقاتلين معارك جوية شرسة، نتج عنها تدمير حوالي (170) مقاتلة سوفيتية، بينما لم تفقد القوات الجوية الألمانية سوى (26) طائرة.
وعلى الجانب الألماني، بدأ الهجوم البري من جهة الشمال، واستطاعت القوات الألمانية تدمير الفرقة (15) مشاة السوفيتية وكذلك تدمير حوالي (45) دبابة من نوع (تي. 34)، وفي المقابل لم تخسر القوات الألمانية سوى دبابتين (تايجر) فقط، وخلال ثلاث ساعات تمكن الجيش الألماني من عبور خط الدفاع الأول. وعلى الرغم من التفوق الكبير لطياري سلاح الجو الألماني (اللوفتفافه)، إلا أن نقص الوقود وقطع الغيار اللازمة، والأعداد السوفيتية الرهيبة كانت سبابًا في عدم مقدرة القوات الجوية الألمانية على تقديم الدعم الجوي اللازم للقوات البرية الألمانية.
وفي يومي الثامن والتاسع من يوليو تمكن الألمان من السيطرة على مدينتي: (بونري)، و(تيبلوي). وفي اليوم العاشر من الشهر ذاته كانت القوات السوفيتية قد تمكنت من إيقاف الزحف الألماني من جهة الشمال بقيادة الجنرال (موديل)، ولكن المفاجأة التي لم يتوقعها الروس أن القوة الحقيقية للقوات الألمانية كانت متمركزةً في الجنوب.
ومع حلول فجر يوم 11 من يوليو كانت أعداد كبيرة من قوات القائد الألماني (هوث) بالقرب من (بروبورفكا) حيث امتلك (هوث) حوالي (300) دبابة جاهزة في أرض المعركة، وحوالي (230) أخرى غربًا على بعد بضعة كيلومترات، وقد جاء في قرارة نفسه أنه قد كبد السوفييت الكثير من الخسائر، وأن النصر لم يعد سوى مسألة وقت، ولكن القوات الروسية كانت قد حشدت ما يزيد على (850) دبابة من نوع (تي. 34) لمواجهة القوات الألمانية، وأصبحنا على وشك مشاهدة أكبر معركة للدبابات.
وفي 12 يوليو، دارت على مشارف مدينة (بروبورفكا) معارك طاحنة بين الجيشين، سبقها قصف ألماني من طائرات الستوكا ومن المدفعية الألمانية، وبنهاية اليوم كانت القوات السوفيتية قد فقدت (400) دبابة (تي. 34). وعلى الرغم من ما تكبّده الجيش السوفيتي من خسائر إلا أن ما يمتلكه من أعداد كبيرة كانت سببًا في عدم صمود الجيش الألماني في وجهه طويلًا، مما اضطر الزعيم الألماني (هتلر) إلى إصدار أمره بإيقاف الهجوم. يضاف إلى ذلك أسبابًا أخرى أجبرت (هتلر) على اتخاذ مثل هذا القرار، منها هبوط الحلفاء في (صقلية) لبدء الهجوم من إيطاليا، مما حتّم عليه سحب بعض قواته من الجبهة الشرقية كي تصد هجوم الحلفاء الجديد.
وفي اليوم التالي بدأ الألمان بالانسحاب، مما مكّن السوفييت من القيام بهجوم مضاد، تحوّل في يوم 16 يوليو إلى هجوم شامل، تمكنوا من خلاله من استعادة مدينتي: (أوريل)، و(خاراكوف). وبنهاية أغسطس 1943م كان السوفيت قد حرروا أكثر من (100) كم من الأراضي على خط مواجهة يبلغ (2000) كم، وأصبح السوفييت يتقدمون باستمرار منذ تلك اللحظة إلى إلى أن تمكنو بعد عامين من معركة (كورسك) من احتلال العاصمة الألمانية (برلين).
نتائج المعركة
نتج عن معركة (كورسك) العديد من الخسائر بين الطرفين، جاءت كما يلي:
ــ القوات السوفيتية: قتل أكثر من (250) ألف جندي، وأصيب حوالي (600) ألف شخص، وتم تدمير (6000) دبابة، وحوالي (1500) طائرة.
ــ القوات الألمانية: بلغ عدد القتلى حوالي (198) ألف جندي، وتم تدمير (760) دبابة، وحوالي (600) طائرة.