
شريف شعبان مبروك
باحث في الشؤون الإقليمية والدولية
عندما تأسست جامعة الدول العربية عام 1945م كان الأمل والطموح الذي يراود الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، هو أن تحمل هذه المؤسسة تطلعاته نحو لمّ الشمل، وإحياء المشروع النهضوي الوحدوي الذي يعيد للأمة المكانة التي تستحق بين أمم العالم وشعوبه، وللحقيقة والتاريخ؛ فقد عملت الجامعة بجد واجتهاد وبذلت جهودًا لا يمكن إنكارها أو الاستهانة بها لخدمة القضايا العربية الكثيرة والمتشعبة، على رغم الكثير من العقبات والمعوقات التي كانت تواجهها وتحدّ من قدرتها على الفعل والتأثير في القرار الرسمي العربي، سواء في الجانب السياسي أو الاقتصادي.
غير أن الجامعة التي تحتفل هذا العام بيوبيلها الماسي ومرور (75) عامًا على انطلاق مسيرتها، لم تتمكن حتى الآن من ممارسة دورها المأمول في تنقية الأجواء العربية وإزالة جميع الشوائب العالقة بها على طريق لمّ الشمل العربي وتوجيهه نحو التكامل والوحدة، وحل الخلافات والنزاعات، بل إن دورها ظل في غالب الأحيان رهينة للخلافات السياسية بين الدول الأعضاء وعرضه للتجاذبات والمناكفات التي تنشأ بين الحين والآخر بين دولة وأخرى، وتراجع إلى حدٍّ باتت فيه الجامعة الطرف الذي يتلقى المبادرات والتوجيهات بدلاً من أن يكون صانعًا ومصدرًا لها.
وبالتالي بات احتواء النزاعات العربية الداخلية القائمة وحلها، وجمع الأطراف المتنازعة يشكل حاليًا واحدة من أهم قضايا الأمن القومي العربي المعاصرة، لأن تلك النزاعات فتحت الباب على مصراعيه لاختراق جداره والعبث به وتمرير الأجندات التي لا تخدم المصلحة العربية بأي حال من الأحوال، ولا حتى مصلحة الطرفين المتنازعين، الأمر الذي يتطلب تحولًا حقيقيًا في دور الجامعة وآليات عملها يقود إلى تفعيل هذا الدور ويمكّنها من التدخل كوسيط محايد وموثوق به وحريص على المصلحة العربية وحل الخلافات.
أولاً: الجامعة العربية ما بين الواقع والتحديات
ظل سؤال: ما الذي آل إليه حال الجامعة العربية، ولماذا تباينت مواقفها، بل ولماذا أصبحت بعض الدول العربية تفضل العمل الثنائي بديلاً عن العمل العربي المشترك، وأصبحت العلاقات خارج الإقليم هي الحل؟
يشير واقع العالم العربي المعاصر بكل تحولاته وإشكالياته إلى أن بعض الدول العربية باتت تفضل العمل على المستوى الثنائي بديلاً عن العمل العربي المشترك بكل منطلقاته، وإيثار مجالات التعاون الإقليمي والدولي عن العمل العربي المشترك، بدليل أنه فرضت بعض الرؤى العربية التوجه نحو العمل خارج الإقليم وعدم الدخول في أطر جماعية، تمثلت في انطلاقها نحو بناء توافقات ثنائية وثلاثية خارج الإقليم بديلاً عن العمل الجماعي، وهو ما مكّن دولة بحجم قطر أن تعمل على المستوى الإقليمي وتقيم علاقات مع كل من: إيران، وتركيا وتقيم علاقات استراتيجية وسياسية وتعقد اتفاقيات دفاعية وعسكرية معها.
الأمر ذاته انطبق على الحالة العراقية بصورة أو بأخرى، كما جرى مع النظام السوري قبل وبعد الحرب في سوريا ولا يزال قائمًا، كما اتجهت دول مثل السودان إلى ظهيره في منطقة القرن الأفريقي، وهو ما أدى إلى دور إثيوبي متنامٍ في السودان قبل وبعد التغيير السياسي الأخير وسقوط نظام (البشير)، وهو ما يشير إلى أن بعض الدول العربية لم تعد تؤمن بالأساس بضرورة الاندماج في صيغ جماعية لتحقيق مصالحها الجمعية، على الرغم من أن هذه الدول نفسها رفضت بناء تحالف عسكري واستراتيجي عربي لمواجهة ما يجري في الإقليم، بل كانت هناك تحفظات من بعضها على تشكيل قوة عربية خالصة لمواجهة التحديات والمخاطر التي تواجه الوطن العربي، فبناءً على توصية القمة العربية في شرم الشيخ اجتمع عام 2015م، رؤساء أركان الجيوش العربية، وكان المأمول أن يواجه في المرحلة الأولى (جيش عربي موحد) تنظيم (داعش) بما يحقق الأمن القومي العربي، بعد اتخاذ إجراءات عملية على الأرض واعتراف بنواحي الخلل والقصور وعلاجها، فقد ظهر من المناقشات أنه من الصعب أن تكون تلك القوة تحت مظلة الجامعة العربية، لأن هناك دول عدة ترفض الفكرة أصلاً لاسيما أن هناك دول مثل: قطر، والجزائر، والسودان لم تخفِ رفضها للحل العسكري في ليبيا على سبيل المثال.(1)

وبالتالي فإن انقسام واستقواء بعض الأطراف العربية حول العديد من الأزمات في المنطقة، فتح المجال أمام قوى إقليمية وأخرى عابرة للقومية، فضلاً عن التحالفات الخارجية ذات التوجهات والمصالح المضادة للتدخل بما يجعل المنطقة في أزمات مستمرة وتحديات متعاظمة أمام الجامعة العربية، تحتاج جميعها لتفعيل تحرك عربي مشترك في ظل تدويل الكثير من شؤون العالم العربي، بما يرفع من سقف التحديات التي تواجه عمل الجامعة العربية وفقًا لخريطة المتغيرات السياسية للإقليم، ويمكننا تحليل تلك التحديات، على النحو التالي:
أ. التحديات الداخلية:(2)
1. إن الجامعة العربية كأول نموذج للعمل العربي المشترك قد أُنشئت في ظرف تاريخي تم تجاوزه الآن، أما اليوم أو بالأحرى منذ عدة عقود فقد ظهرت أولويات جديدة لدول التنمية والرفاه والحقوق والحريات الفردية كتطلعات وتحديات في آنٍ واحد، باختصار كانت الجامعة العربية ابنة حقبة زمنية ولّت وانقضت بما لها وما عليها ليواجه العرب اليوم حقبة جديدة لا يكاد يوجد في ميثاق الجامعة ما يُعبّر عنها، فبرغم العولمة وسقوط الحواجز وثورة الاتصالات ظل ميثاق الجامعة العربية يحمل إرث سبعة عقود ونصف، وهو إرث أثقل من حركة الأنظمة العربية لأن تجاوزه أو تطويره بالأقل كان يتطلب الكثير، وهو ما كشفت عنه جزئيًا على الأقل الانتفاضات العربية في عام 2011م.
2. الحاصل اليوم، وبصرف النظر عن أي نقاش حول أسباب الفوضى الضاربة بجذورها في أكثر من بلد عربي وأنصبة المسؤولية عنها، هو تباين مواقف الحكومات العربية مما يجري في البلدان التي تتصدّع جغرافيتها السياسية، وهو تباين يبدو صريحًا تارةً ومضمرًا تارةً أخرى، لكن في الأحوال كافة ثمة غياب لرؤية عربية مشتركة في هذا الشأن، وكان أخطر ما ترتّب على ذلك هو التنافس غير العربي واقتراح آليات ومبادرات للبحث عن حل لنهاية الصراع الأهلي كان أطرافها جميعًا من غير العرب، وهذا ما كان على الأقل في الحالة السورية، وفي غيرها من الحالات الأخرى لم يكن الدور غير العربي أقل تأثيرًا حتى ولو بدا تأثيره من خارج الأطر العلنية.
3. أصبح المأزق العربي مأزقين: أولهما مواجهة الفوضى والصراعات الداخلية بتقاطعاتها الإقليمية والعالمية المريبة التي تهدّد الجغرافيا السياسية ليس فقط لدول الفوضى والصراع ولكن أيضًا لدول الجوار، وربما لدول أبعد بتداعيات (لعبة الدينامو). وثانيهما استمرار الأزمات العربية المزمنة، مثل قضية صحراء (البوليساريو)بين الجزائر والمغرب، والقضايا الحدودية التي تثار بين الحين والآخر بين بعض الدول العربية.
4. أزمة الأقلمة والتهميش، حيث يطالب البعض بالأقلمة مقابل المركزية، والذي من شأنه أن يعمق أزمات الداخل كتحدٍ أمام دور الجامعة العربية، ونجد أن إشكالية التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي دائمًا ما تكون مصاحبة للدعوات النافذة نحو الأقلمة باجتزاء إقليم عن المركز.
ب. التحديات الإقليمية:
تنقسم بدورها إلى متغيرات تتعلق بالفواعل الإقليمية ذات التأثير كتركيا وإيران، وآخري تابعة للفواعل العابرة للقومية كحالة تنظيم (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية، وذلك من خلال:
1. فواعل إقليمية:
على رقعة النفوذ في المنطقة العربية تتنافس قوى عدة من بينها: تركيا، وإيران للعب دور رئيس، وعلى ذات الرقعة يهرول آخرون، بينهم قطر، وراء ما يخدم أجندتهم التخريبية، ومع هذا وذاك يظهر بين الحين والآخر من يساعد ويستفيد من هؤلاء المهرولين وراغبي النفوذ وغيرهم، ولعل الصورة التي جمعت رؤساء أركان القوات المسلحة في كل من: السودان، وتركيا، وقطر، خلال اجتماعهم في عام 2017م بالخرطوم، تختصر الكثير بهذا الشأن، وهو تحرك يفتح الباب أمام كثيرين للتكهنات والأسئلة، بل والمخاوف أيضًا،(3) وبالإضافة إلى ذلك فإن العلاقة بين جماعة الإخوان وتركيا وقطر علاقة تاريخية، ورغبة تركيا وقطر في إبقاء ملفات مهمة في المنطقة بيدهما، ومن أبرزها: ملف جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، لما تمثله لها من أوراق ضغط مهمة إقليميًا وعربيًا، خاصة في مواجهة الدول التي تعتبرها تركيا وقطر أنها تمثل تهديدًا لها، وفق منظورها.(4)
كما اتجهت تركيا لتدوير زوايا الخلاف مع بعض الدول، وبناء شراكات إقليمية ودولية مثل تفاهماتها وتعاونها مع كل: من روسيا وإيران وقطر، وإضافة القوة الخشنة ومزجها مع القوة الناعمة، من قبيل زيادة التصنيع العسكري المحلي، وبناء القواعد العسكرية في قطر، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك في أطماعها لتصل إلى ليبيا على الحدود الغربية للوطن العربي، وفي جنوب الوطن العربي إلى الصومال حيث القاعدة العسكرية التركية،(5) وتنفيذ العمليات العسكرية خارج حدودها (مثل درع الفرات وغيرها من العمليات العسكرية)،(6) عبر عشرات المليشيات المتشددة التي تدعمها أنقرة بشكل غير مباشر، واستكمال ذلك من خلال تعزيز نفوذها على البحر الأحمر بالقرب من خطوط المواصلات العالمية في باب المندب وقناة السويس،(7) ويرتبط ذلك أيضًا بمسارعة أنقرة قبل عزل (البشير) بالتدخل في ملف تطوير وإدارة جزيرة سواكن، وإبرام اتفاقيات للتعاون العسكري والأمني، وبالتالي لا ينفي ذلك سعيها الحثيث إلى منافسة النفوذ العربي، على المستويين العسكري والاقتصادي في شرق إفريقيا.(8)
وبعد مرور أكثر من (107) أعوام على توقيع الدولة العثمانية لاتفاقية مع إنجلترا بغية الانسحاب من قطر عام 1913م، و(105) أعوام على انسحابها من الجبهة التي لم تستطع الصمود في وجه القوات الإنجليزية، تعود تركيا اليوم بحلّتها العثمانية الجديدة نحو المستعمرة القديمة تحت غطاء القواعد العسكرية، حيث تبرز أهمية القاعدة بالنسبة لتركيا من أهمية موقعها على الجهة الشرقية من الجزيرة العربية، خصوصًا بعد إقامتها لقاعدة في الصومال على الجهة الغربية،(9) وتورط تركيا مع قطر في حرب بالوكالة في ليبيا من خلال دعم الميليشيات والفصائل الإسلامية تحت تحالف (الفجر الليبي)، وحزب العدالة والتنمية.(10)
بالمقابل، نجد الجناح الشيعي في المنطقة العربية، والمتمثل في إيران وأذرعها التي استطاعت أن تبسط نفوذ السيطرة وفقًا لمخططها المتمثل في الوثيقة السياسية المعلنة (إيران 2025)، وما يستدعي ذلك من استقطاب دول المنطقة لتمرير خططها التوسعية، بما يشكل تحديًا مماثلاً أمام الجامعة العربية، فوثائق وزارة الاستخبارات الإيرانية التي حصل عليها ونشرها موقع (The Intercept)، وصحيفة نيويورك تايمز في نوفمبر 2019م والمكونة من (700) صفحة، تكشف أسرار طهران في تعاملها مع دول المنطقة وأساليبها الملتوية، ومقارباتها التوسعية،. وفضحت الوثائق كواليس (لقاء سرّي) استضافته تركيا وجمع (فيلق القدس) التابع للحرس الثوري الإيراني مع جماعة (الإخوان المسلمين)، للتحالف ضدّ المملكة العربية السعودية،(11) كما فضحت حقائق عن دور إيران الخفي بالتدخل في شؤون جارتها العراق بلمسات مباشرة من قائد (فيلق القدس) الجنرال قاسم سليماني، وحروبها السرّية هناك.( 12)
والأمر ذاته تكرر في ليبيا بعد الكشف عن تورط إيران في تهريب أسلحة وعتاد على متن سفن شحن إلى الميليشيات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق في ليبيا بالتنسيق مع حليفتها تركيا، ووجهت المعارضة الإيرانية الاتهامات للنظام الحاكم في طهران بالتورط في إمداد ميليشيات إرهابية في ليبيا لخدمة مصالح حليفتيها: قطر وتركيا، ومن ذلك على سبيل المثال، قيام سفينة شهر كرد العابرة للمحيطات بتفريغ شحنة من الصواريخ قصيرة المدى في ميناء مصراتة، في أبريل (نيسان) 2019م.(13)
وبالتالي يقودنا ذلك إلى امتداد لمثلث تركيا ــ إيران ــ قطر، فتركيا وإيران تسعيان لتعزيز نفوذهما السياسي، وتَمدُّدهما الاستخباراتي، وحماية مصالحهما الاقتصادية، وإيجاد مراكز تدريب، أو قواعد عسكرية على الساحة العربية، تُسهِم في إعادة خلط المعادلات القائمة، في بلدان الجوار للمنطقة العربية، لا للقضايا والمصالح العربية،( 14) فقد اعتمدت قطر على إقامة علاقات مع الدول المحيطة بالوطن العربي، كإيران وتركيا، وهي دول تمسك بأطراف الوطن العربي، واستخدمت قطر علاقاتها تلك كأوراق ضغط ضد دول عربية، تمخض عنها في عام 2017م أن تدخلت قطر بعد يوم واحد من الإعلان عن فشل مفاوضات سد النهضة في جولتها الـ(17) في نوفمبر 2017م، ووقعت مع إثيوبيا في 14 نوفمبر ثلاث اتفاقيات للتعاون المشترك بين البلدين، إحداها خاصة بالتعاون الدفاعي والعسكري.(15)
وبالتالي تشابه الأهداف التي تتحكم في تحركات ومفاصل الدول الثلاث، وأبرزها الإصرار على دعم التيار الإسلامي بأطيافه المختلفة، والتي أصبحت جزءًا من هُوية تركيا وقطر وإيران وتطوير العَلاقات بينها لمواجهة المد الذي يحظى به تحالف مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين، وبات عنصرًا محوريًّا لكشف كثير من ممارسات الدول الداعمة للإرهاب،(16 ) وبالتالي أيضًا فهناك موجات لا تتوقف من (السلوكيات السيئة) غير المبررة وغير المنطقية التـي لا تراعـي قواعد أو مصالح أو حتى منطقًا، تتمثل في توجهات وسياسات و(تصريحات) القوى الإقليمية الرئيسة المحيطة بالمنطقة العربية، كإيران وتركيا، إضافة إلـى الحالات العربية المستعصية كقطـر والصومال والعراق والسودان وجيبوتي، والفاعلين التابعين لهم داخل الدول العربية، بدعم أو بتجاهل عدد لا بأس به من العواصم الرئيسة في العالم، فقـد بدا الجميع وكأنهم قرروا التخلص من الدول العربية.(17 )

2. فواعل عابرة للقومية إقليميًا:
أصبحت خريطة الفاعلين من غير الدول في المنطقة العربية تتسم بالتعقيد، نتيجة لتنوع أنماط الفاعلين النشطين فيها، فمن حيث مستوى نشاط الفاعلين، يمكن التمييز بين الفاعلين من غير الدول المحليين، أي الذين ينحصر نشاطهم في دولة واحدة فقط، مثل: الأحزاب السياسية، والمحاكم الإسلامية، والفاعلين العابرين للحدود، والذين يتعدى نشاطهم حدود دولة واحدة، مثل: حزب الله، وتنظيم القاعدة، والشركات المتعددة الجنسيات.
وتأسيسًا على ذلك، نجد مصطلح: (الاختراق الموازي) ظهر جليًا بتعدد أجيال الفواعل العابرة للقومية، وصولاً إلى حالات التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وتنظيم داعش، ويختلف من حيث المضمون العام الذي يرسخ لهدف أوحد كما طرحة كريستوفر هيل كجدال عام بالحصول على إقليم أو قطعة أرض، حيث تسعى لإقامة دولة جديدة أو إحلال نظام سياسي، وبالتالي فالفاعل هنا لديه تنظيم سياسي وعسكري واقتصادي، ومن أجل تحقيق ذلك الهدف قد يجذب تحالفات مختلفة، تلك التحالفات بدورها قد تشكل تحديًا سياسيًا أمام دور الجامعة العربية في إدارة أزمات الإقليم.( 18)
ج. التحديات الدولية:
تتمثل بدورها في إعادة تموضع الأطراف المؤثرة داخل النسق الدولي بخريطة الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وذلك باختطاف دور الجامعة العربية بتسوية أزمات الإقليم، وطرح مبادرات وخطط شاملة لإنهاء الصراعات، وذلك مثل مباحثات: (جنيف: 1، 2، 3، 4)، فضلاً عما خلفه مؤتمر الآستانة من هيمنة الطرف الروسي نحو إنهاء الصراع السوري وضمان توافق أطراف الصراع حول صياغة المناطق الآمنة، بما يهمش من دور الجامعة العربية، وينتقص من ثقل ميثاقها بتداخل أطراف دولة صراع عربي ــ عربي.
ثانيًا: خروج عن الإجماع العربي
اتجهت بعض الدول العربية للعمل خارج الإقليم على مستوى العلاقات مع دول الجوار الإقليمي، ولم تكتف بالاتجاه إلى خارج الإقليم العربي، لبناء شراكات سياسية واستراتيجية حقيقية، بل تجاوز الأمر إلى الاستقواء بالطرف الإقليمي في مواجهة الدول العربية، وفي المجمل فإن هذه الدول وعبر قرارات منفردة، تعمدت تغيير صيغة العمل العربي المشترك لمواجهة التهديدات والمخاطر، وهو ما تم عبر أربعة محاور، تمثل الأول في: إبرام سلسلة من الاتفاقيات الأمنية والاستراتيجية خارج النطاق العربي، ما عمّق وبقوة التدخل الخارجي في الوضع العربي، وأدى إلى مزيد من الانقسام والتشرذم العربي إلى الآن، أما الثاني فجاء عبر: عدم وجود قناعة سياسية بأن العمل العربي المشترك قد يكون مدخلاً حقيقيًا للتوافق في ظل وجود تشكك حقيقي وكبير من الدول العربية تجاه بعضها، كما تتخوف بعض الدول من نظيرتها المجاورة، فتعمل على إبرام اتفاقيات أمنية واستراتيجية مع قوى إقليمية.(19)
أما المحور الثالث فيتمثل في: الانتقال من فكرة العروبة والعمل العربي المشترك إلى فكرة الإقليمية، أو الدولية، أو التحالفات المتسعة والممتدة، وهو ما دفع الدول المنضوية في هذه التحالفات من خارج الإقليم إلى مزيد من التدخلات المباشرة وتحديد برامج العمل السياسي والأمني، بل والوجود في قلب الإقليم عبر استراتيجية الدعم المقيم من خلال القواعد العسكرية والاستراتيجية، وأدى إلى تهميش النظام الإقليمي العربي بكل مؤسساته، وأن يصبح النظام الإقليمي الخارج هو الأساس الذي يمكن البناء عليه عربيًا، وأخيرًا جاء المحور الرابع في: اتجاه بعض الدول العربية إلى بناء أنماط وتفاعلات ثنائية ومتعددة داخل الإقليم.
وفي الوقت الراهن لم تعد هذه الاتفاقيات الأمنية أو السياسية قائمة، وتم الاتجاه لإبرام صيغ أكثر واقعية من دول إقليمية أو دولية، ما أدى إلى مزيد من الانقسامات داخل النظام الإقليمي العربي وتهميش دوره لصالح أنظمة أخرى أكثر واقعية واستمرارية، خاصة أن التدخلات الإقليمية والدولية أسهمت بقوة في إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، بل وتجميد صيغ التعاون المقرة سلفًا في سلسلة من الاتفاقيات العربية، التي كان يمكن أن تسهم في تطوير بنية العلاقات (العربية ــ العربية) مع عدم الممانعة في الدخول في صيغ خارجية أو دولية، دون أن يكون لها اليد الطولى في المعاملات العربية الراهنة والمستقبلية، التي ستستمر في ظل غياب وتغييب دور الجامعة العربية.
فبين عامَي 2010 ــ 2011م، في فترة هبوب ما يُسمّى بـ:(الربيع العربي)، توسّع النفوذ السياسي والمالي لقطر، وخالفت الدوحة مرارًا وتكرارًا الموقف العربي السائد على المستويين الرسمي والشعبي، بإعلانها تأييد الهجوم العسكري التركي على شمال وشرق سوريا، وذلك في تكرار لاصطفافها بجانب القوى الإقليمية غير العربية، والذي بات أكثر وضوحًا منذ أزمة مقاطعة المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات والبحرين ودول أخرى لقطر في يونيو 2017م وحتى اليوم، ففي حين وصفت الدول العربية العملية العسكرية التركية بـ:(الغزو) إلى جانب دول ومنظمات غربية مما دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تهديد أوروبا بورقة اللاجئين مجددًا، فقد امتنعت الدوحة عن شجب العملية العسكرية التركية، أو حتى الدعوة إلى (ضبط النفس).(20)
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تدعم فيها الدوحة التدخلات العسكرية التركية في المنطقة العربية، حيث تكرّر الموقف نفسه من دعم الميليشيات المسلحة المسيطرة على العاصمة الليبية طرابلس، فيما سبق أن تحفظت الدوحة في عام 2015م على البيان الصادر من الأمين العام للجامعة العربية آنذاك نبيل العربي، بشأن استنكار الجامعة العربية للقصف التركي على مناطق في شمال العراق، مؤكدة دعمها للإجراءات التركية، كما اعتبرت أن ذلك يأتي في إطار (حق تركيا في الدفاع عن نفسها والقضاء على مصادر التهديد)، في إشارة لاستهداف أنقرة لما تصفه بالعناصر الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، مشددة على «تضامن دولة قطر الكامل مع الجمهورية التركية الشقيقة فيما تتخذه من إجراءات وتدابير لحماية حدودها وحفظ أمنها واستقرارها»، بحسب بيان كان الأول من نوعه في الاصطفاف بجانب أنقرة ضد مواقف وثوابت الجامعة العربية من العدوان على أي من الدول الأعضاء، ومنذ ذلك التوقيت دأبت قطر على تسجيل تحفظاتها على قرارات الجامعة العربية التي تدين التدخلات العسكرية التركية في سوريا والعراق.(21)
وفي ضوء ذلك، يمكننا القول: إن الموقف القطري غير مستغرب في ضوء التحالف القائم مع تركيا بهدف حماية النظام القطري، فموقف الدوحة يتفق مع وضع القوات التركية الموجودة في الأراضي القطرية، والتي تعد ضمانة أمنية لأمير قطر لعدم الإطاحة به، وهو جزء من سياسة استقواء قطر بالخارج وتحالف النظام القطري مع الرئيس أردوغان في مختلف الملفات الإقليمية التي تخالف إجماع الدول العربية الرئيسة التي تقاطع الدوحة بطبيعة الحال، والتي كان أخرها رفض الصومال وقطر وليبيا وجيبوتي بيان مجلس الجامعة العربية الختامي في سبتمبر 2020م، الذي إدان التدخلات التركية بالمنطقة، وطالبها بسحب كافة قواتها من الدول العربية.(22)
وبالتالي يمثل الدعم القطري لتركيا دعمًا للإرهاب، لأن ما تقوم به القوات التركية في المنطقة العربية ليس فقط غزوًا عسكريًا لقوات عسكرية نظامية، ولكنه يتم أيضًا عبر عناصر وميليشيات متطرفة مدعومة من أنقرة بغرض إحداث هندسة ديموغرافية وتطهير عرقي، وهو عمل من أعمال الإرهاب اعتمادًا على عناصر مسلحة متطرفة لا يختلفون كثيرًا عن الإرهابيين التابعين لداعش وجبهة النصرة وتنظيم القاعدة الموجودين في هذه المنطقة، وهذا سر إطلاق الرئيس التركي وصف (الجيش المحمدي) على تلك القوات. وعلى المنوال نفسه لا تستطيع قطر إنكار حقيقة علاقتها بالحوثيين في اليمن، ففي وثائق سرية مسربة من الأرشيف الاستخباراتي لنظام الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح، يتضح جليًا، الدور القطري ــ الإيراني بالتعاون مع حزب الله لإشعال فتيل الحرب التي شنها المتمردون الحوثيون على الحدود الجنوبية للسعودية عام 2009م، وهي والغاية التي جعلت قطر تنسلخ عن محيطها العربي والخليجي لتدعم الحوثيين في اليمن.(23)
الحالة العراقية أيضًا كرست تدخلاً سافرًا من قبل إيران في شؤون الداخل، ما أدى إلى تداعيات خطيرة تحت وطأة تدخلات طهران السافرة، ولعل التظاهرات الأخيرة وما ارتبط بها من أحداث، حتى قبل أن يأتي رئيس الوزراء محمد علاوي المحسوب على إيران، تكشف عن مدى تدخل الأخيرة وكونها سببًا في عدم الاستقرار، وحاول إبراهيم الجعفري وزير الخارجية العراقي السابق، في كلمة ألقاها أثناء اجتماع الجامعة العربية في عام 2016م، الدفاع عن الحشد الشعبي وحزب الله واصفًا منْ يتهمهم بالإرهاب بالإرهابيين، فهل فات السيد الجعفري بأن من دواعي المنطق والاستدلال السليم أن يقف، وهو رجل الثورة الخمينية والعضو في حزب الدعوة، موقف المدافع عن كيانات مسلحة انبثقت بإرادة إيرانية، من حاجة الدول العربية للتصدي لأعدائها؟ (24)
والحال ذاته تكرر في لبنان الذي يعاني حالة عدم استقرار، وسيظل، لاعتبارات تتعلق بالتدخل الإيراني عبر ارتباطها بحزب الله، ودوره في إقحام لبنان بالحرب في سوريا، ومسعاه لإعادة تعويم النظام السوري مجدداً،(25) ما أدى إلى تداعيات حقيقية على لبنان، فلم تجد الجمهورية الإسلامية الإيرانية مجالاً أفضل من المقاومة اللبنانية، تزج فيه رجالها المؤمنين بمشروعها الطائفي كي تمنحهم الشرعية وتفرض وجودهم المسلح على الواقع، إذًا فليس هناك وجه أجمل من وجه مقاومة الكيان الصهيوني، يمكن أن يظهر به حزب الله في لبنان ويتمكن من خلاله استقطاب العقل السياسي المراهق، السائد، عند الشعوب العربية، لكن ماذا عن الوجه الآخر؟ الوجه العامل على خدمة المشروع الإيراني في المنطقة؟ كيف يمكن وضع حد لتغلغله في مفاصل الدولة ومحاولات قيادتها باتجاه إيران لتكون طرفًا أساسيًا في حماية لبنان من الاعتداءات الخارجية وحل أزماته الداخلية؟ هل حزب الله كيان لبناني وطني، أم شيعي خميني؟(26)
وفي سياق الخروج عن الاجماع العربي، فقد تحفظت كل من الصومال وجيبوتي في 4 مارس 2020م على قرار الجامعة العربية الذي يطالب إثيوبيا بعدم ملء سد النهضة قبل التوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان، كما تحفظت الصومال أيضًا على عدد من البنود التي تؤيد التصدي لأي تدخل خارجي في ليبيا، والمتابع للعلاقات الخارجية المتشابكة لهذه الدول يجد أن تركيا استطاعت في الآونة الأخيرة أن تتواجد في الدولتين العربيتين بشكل كبير تحت ذريعة المساعدات الإنسانية والدعم من أجل التنمية، لكن الحقيقة هي احتلال مقنع على شكل قواعد عسكرية واستغلال للثروات تحت ستار الاستثمار، ويبدو أن أنقرة استطاعت أن تعمق علاقاتها مع الدولتين العربيتين حتى أصبحتا أداة لها تستخدمهما وفقًا لمصالحها، وهو ما ظهر مؤخرًا بشكل واضح، حيث تصدت كل من جيبوتي والصومال لكل قرار من شأنه أن يدعم مصر التي تعتبرها تركيا العدو الأكبر لها في المنطقة.(27)
ثالثًا: مستقبل جامعة الدول العربية في ظل التحديات والتحولات الراهنة
معظم أقاليم العالم الذي نعيش فيه يمر بزمن يمكن أن يوصف أنه زمن اللايقين، بعض الأقوال تذهب إلى أن المرحلة العالمية الحالية المشبعة بالاضطراب، تشبه كثيرًا مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، اضطراب في الأمن العالمي، وانشطار حاد في المواقف تجاه القضايا الكبرى، وضعف في المؤسسات الدولية بل وتفككها، وصراع على الموارد وأزمات مالية مستمرة، والبيئة العربية ليست استثناءً من ذلك اللايقين، بل إنها تكاد تصبح بؤرة الصراع في عالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ورغم خفوت الدور المنوط أو المأمول لها، تظل ضرورة بقاء الجامعة العربية، على اعتبار أنها (بيت العرب الأخير والمظلة الجامعة لقضاياهم)، وإذا نظرنا للتكتل الأهم في العالم، بعد الأمم المتحدة، والمتمثل في الاتحاد الأوروبي، فنجد أنه يمر بأزمة ثقة بين دول أعضائه، فضلاً عن أن قدرته على مواجهة سياسات الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب، وموسكو برئاسة فلاديمير بوتين، تبقى محل تساؤل، وفي حالة الجامعة العربية، فإن أهمية بقائها تبقى قائمة، وهذا ما بدا في موقف الدول الأعضاء الأخير الرافض لخطة السلام الأمريكية التي أعلنها ترامب.(28)

وفي ضوء أنه أصبح من المعتاد أن يستعين نظام عربي على آخر من خلال التحالفات الإقليمية حتى لو رافقها دخول قوات عسكرية وإقامة قواعد دائمة، وأصبح من المعتاد لكي يحافظ كل فريق سياسي على مصالحه وضد النظام أن يتحالف مع قوة إقليمية ضد وطنه أو يدمر النظام بلاده بالتحالف مع القوى الإقليمية أو يعطل تشكيل الحكومة أو أدائها لأشهر وسنوات، كما هو الحال في اليمن وليبيا والعراق وسورية ولبنان، مما أدى إلى فقدان الجامعة العربية لدورها المنوط بها، وفي ضوء ما سبق يمكن الإشارة إلى أنه هناك مسارين، يمكن الحديث عنهما كمدخل لإصلاح الجامعة العربية، الأول: هو (هيكلية الجامعة وإدارتها)، والمسار الثاني: ما تستطيع الجامعة (كمجموع) أن تقدم للمسار السياسي أو الاقتصادي العربي المشترك، وكلا المسارين (الجامعة) كمؤسسة و(تأثيرها السياسي) هما (محصلة قوة) لمكوناتها وهي الدول العربية، وليست قوة بحد ذاتها، فقوة الجامعة وضعفها من قوة مكوناتها ومن الإرادة السياسية لدى تلك الدول، وأيضًا المشروع الذي يمكن أن يقال عنه إنه (الرافعة) للعمل العربي المشترك.
القليل الذي يمكن أن يُصلح في هيكل الجامعة غير مطروح اليوم على المستوى الإداري وهو بحد ذاته قليل، بمعنى أن ذلك الإصلاح الذي تحدث عنه البعض في زمن سابق لم يعد حتى مطروحًا للنقاش فهو يحتاج إلى توافق بين أعضاء الجامعة أنفسهم، كما يحتاج إلى تمويل، وكلاهما متعذر في هذه البيئة التي حولنا أو صعب المنال، أما الثاني، وهو ( الفعل السياسي) فهو أيضًا متعذر بشكل أكبر، لأن الدول المشاركة في معظمها اليوم هي إما في وسط صراع دموي في داخلها أو مرتهنة إلـى قوة خارجية ( إقليمية) وغير قادرة على الفعل بسبب ما تمر به من ظروف سياسية واقتصادية صعبة، من التعجل لوم الجامعة (كمؤسسة) على الوضع العربي المتدهور فهي قوية بقوة أعضائها وضعيفة أيضًا بضعفهم، فالعرب ليس لديهم مما يمكن أن يسمى (المشروع الرافعة)، كما تبلور في السابق، فلم يعد مشروع (النهضة) مطروح، ولم تعد محاربة (المستعمر) له قيمة كما كان، وحتى مشروع (مناصرة فلسطين) بما يعنيه من حشد وتحصير لم يعد مشروعًا متفق عليه.
لذلك، يبدو أن المخرج هو بناء تحالف عربي سياسي بمن رغب، وتجديد شباب الجامعة العتيدة إن أمكن ذلك وتطوير ميثاقها، هدف الائتلاف الجديد يجب أن يكون إبعاد المنطقة عن هوة التمزق، وتفعيل عمل عربي مشترك، يستطيع أن يوقف تمدد المشروعين الإقليمين، وأيضًا وقف الأطماع الأخرى التي تهدد بعض الدول العربية، كما يستطيع أن يقدم البديل الحضاري والإنساني، ذاك المفروض هدف الجامعة الجديد، أو هدف أي تكتل عربي، ومن مصلحة الدول العربية خاصة التي لم تسقط في مرحلة الخطر والاضطراب، أن تتمسك بالنظام الإقليمي العربي، على أن يجدد على أساس أكثر وضوحًا وموضوعية مما سبق، وأن تحافظ على جذوته مشتعلة، وقادرة على المقاومة، بعدها يمكن إقامة تحالف دولي يساعد في رفد هذا التحالف الإقليمي وإشاعة السلم والأمن في ربوع المنطقة.
وفي ضوء ذلك، تُعد دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية إحدى ركائز ودعامات العمل العربي والداعمة له بكل ما أوتيت من قوة من أجل العمل العربي المشترك إذ أخذت دول المجلس على عاتقها من الثلاثة عقود الماضية نهجًا مغايرًا من العمل السياسي الخارجي المدعوم بالقوة الاقتصادية والعنصر البشري المؤهل، وظهر ذلك جليًا بعد موجة ما سمي بـ:(ثورات الربيع العربي) في مساعدة الدول العربية الشقيقة في محاور مختلفة منها الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية بهدف تنمية تلك الأقطار العربية واجتيازها لتلك الفترة المضطربة في تاريخنا الحديث والمعاصر فيما تسعى دول المجلس في الوقت نفسه بأن تجنب الوطن العربي الهيمنة الدولية والإقليمية من بعض القوى مستغلة تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية من أجل فرض أجندتها الانقسامية أو الطائفية وجعل الساحة العربية مكان للتنافس الدولي والإقليمي المحموم.(29)
ولكن في ظل تعذر التوافق على بناء كتلة تشمل دول مجلس التعاون الست في ضوء السياسات الانفرادية لقطر، فإن البديل هو العمل في سياق مفهوم (الكتلة النوعية) أو (الكتلة داخل الكتلة)، وهي التي تشمل الدول التي تتوافق بينها على السياسات، بما في ذلك إمكانية العمل مع دول عربية من خارج الكتلة كدعامة لتوجهات الكتلة الخليجية المركزية، ولقد حققت السعودية والإمارات والبحرين نجاحًا مهمًا في ذلك، يدلل عليه أن توجهات الدول الثلاث شكلت خلال الفترة الماضية أساسًا للتوجه العربي عمومًا، برز أثر ذلك في الواقع العربي، سواء إزاء قطر أو في اليمن أو مع العراق أو إزاء كل من إيران وتركيا، وإلى حد كبير يمكن القول: بأن هذا التكتل الخليجي المركزي أسهم بنصيب وافر في تحديد وصناعة السياسات العربية، وهو ما انعكس على حال النظام العربي الذي برزت عليه مؤخرًا بعض ملامح الاستقرار.(30)
كما إن (التحالف الرباعي) الحالي بين الدول العربيـة، يجب أن يتم توسيعه بصورة ما، ليس لامتلاك قدرات أكبر، ولكن للتوافق حول تصور عام، فقد أظهرت أزمات المرحلة الأخيرة أن هناك أطرافًا عربية «لديها توجهـات معاكسـة»، أو تفضـل أن تنـأى بنفسـها عما يدور، لكن تفاهمًا مـع «مـن يبدو راغبًا، على أسس للدفاع عن منطقة تمثل فيهـا الدولة ــ مـع مرونـة بشأن شكلها ــ الوحدة الأساسية في مواجهة الكيانات الصغيرة، والقيم المدنية في مواجهة التيارات المتطرفة، والهوية العربية المسـتندة إلى إسلام معتدل في مواجهة الطغيان الإقليمي، مع إعادة تعريف كل ما يحتاج ذلك، يمكن أن يشكل تصورًا مشتركًا، يمثل بديلاً للفراغ العربي والتبجح الإقليمي، في أصعب مرحلة تواجهها المنطقة في تاريخها الحديث.(31)
فقط محور (السعودية/ الخليج ومصر وبعض الدول العربية القليلة) التي نجت جزئياً من سلبيات (الربيع) إن صح التعبير، قادرة على أخذ المبادرة، إلا أن تلك المبادرة تحتاج إلى (مشروع) واضح، وأعتقد اقرب ما يمكن أن يكون هذا المشروع هو (إقامة الدولة العربية الحديثة والعادلة) والتعمق في الأهداف التي يراد تحقيقها، هل هي صد المشكلات والتقليل من الخسائر، أو هي مبادرة إيجابية لإنقاذ الأمة من هذا التدهور الحاصل، حتى نصل إلى ذلك المكان (تحديد أهداف النهوض) نحتاج إلى خطوتين، الأولى: هي الإقرار بأن العمل (بالإجماع) في محراب الجامعة العربية قد ولى زمانه، والثانية: أن يتوافق القادرون على فهم مشترك لما يجب أن يكون في كل من ليبيا و سوريا واليمن و لبنان والعراق، أي يكون هناك موقف محدد وواضح من المشكلات التي تعاني منها تلك البلدان، ورسم خارطة الحلول وطريق مشتركة للخروج من تلك المعضلات.
خاتمة
إن الجامعة العربية كفكرة وكمؤسسة أمر يحتاجه العرب اليوم أكثر من أي وقت آخر. كانت الجامعة إما مكانًا للصراع أو ممر لتمرير خطوات دولية لاحقة، لم يعد الوقت ولا البيئة المحيطة بالعرب تسمح اليوم بهذا الامتياز الذي كان ممكنًا في الأيام السهلة. تحدي الجامعة العربية يأتي من داخل دولها، فهناك شعور بالفشل، كما أن هناك ضغوطًا حقيقية على الاقتصاد العربي، أوصل عددًا من الدول العربية إلى العجز المالي والاستدانة من الخارج. الصورة قاتمة وما تستطيع مؤسسة الجامعة العربية اليوم أن تقدمه للدول والقادة أن تبسط أمامهم الحقائق والكثير منها معتم! لذلك فإن البحث عن عزم لدى (تعاون القادرين) أصبح ضرورة استراتيجية عربية لإنقاذ الأمة من التدهور المشاهد ووضع العمل العربي، حتى في عدد محدود من الدول، على سكة الخلاص، والتي سوف تعمل كرافعة للعمل المستقبلي.
المصادر
1. د. أيمن سلامة، صياغة مقترحة لنظام عربي جديد: (4) تحديات تواجه العمل العربي المشترك، مجلة آراء حول الخليج، العدد 131 (جدة: مايو 2018)، ص 34.
2. إيمان زهران، المُتغيرات السياسية وانعكاساتها على دور جامعة الدول العربية في تسوية أزمات المنطقة، مجلة آفاق عربية، العدد 2 (القاهرة: ديسمبر 2017)، ص 67. أنظر أيضاً: د. سليمان عبد المنعم، سؤالُ اللحظة المُلِح: تطوير ميثاق الجامعة أم البحث عن نظام عربي جديد؟، مجلة آراء حول الخليج، العدد 131 (جدة: مايو 2018)، ص ص 8 ــ 11.
3. تركيا وقطر وثالثهما السودان: حسابات المال والنفوذ، سكاي نيوز عربية، 27 ديسمبر 2017.
https://www.skynewsarabia.com.
4. سوسن الشاعر، خطر المحور التركي القطري على الأمن العالمي، صحيفة البيان، 27 يناير 2020.
5. إيمان زهران، المُتغيرات السياسية وانعكاساتها على دور جامعة الدول العربية في تسوية أزمات المنطقة، مصدر سابق، ص 68.
6. Soner Cagaptay and Nick Danforth, Turkey›s Complicated Relationship with the Middle East: Explained by One Word, Washington Post, 2 September 2017. https://www.washingtonpost.com/news/worldviews/wp/2017/09/02/turkeys-complicated-relationship-with-the-middle-east-explained-by-one-word/?utm_term=.754a604786bb
7. محمد ماموني العلوي، لعبة النفوذ عنوان تحركات أردوغان بأفريقيا، صحيفة العرب اللندنية، 3 مارس 2018.
8. ما وراء تمدد القواعد العسكرية التركية في المنطقة العربية، كيو بوست، 18 سبتمبر 2017.
https://www.qposts.com
9. التغلغل التركي في الصومال: المظاهر والآثار، الصومال الجديد، 7 سبتمبر 2017:
http://alsomal.net/wp-content/uploads/
10. David D. Kirkpatrick and Eric Schmitt, Arab Nations Strike in Libya, Surprising U.S., the New York Times, 25 Aug 2014. https://www.nytimes.com/2014/08/26/world/africa/egypt-and-united-arab-emirates-said-to-have-secretly-carried-out-libya-airstrikes.html?_r=0 See also: Aaron Stein, Turkey›s Proxy in Libya, War on the Rocks, 15 January 2015. https://warontherocks.com/2015/01/turkeys-proxy-war-in-libya/
11. James Risen, A SECRET SUMMIT: Iran’s Quds Force and the Muslim Brotherhood Considered an Alliance against Saudi Arabia, The Intercept, 18 November 2019. https://theintercept.com/2019/11/18/iran-muslim-brotherhood-quds-force/
12. James Risen, Tim Arango, Farnaz Fassihi, Murtaza Hussain, Ronen Bergman, A SPY COMPLEX REVEALED: Leaked Iranian Intelligence Reports Expose Tehran’s Vast Web of Influence in Iraq, The Intercept, 18 November 2019. https://theintercept.com/2019/11/18/iran-iraq-spy-cables/
13. محمد عبد القادر خليل، تنسيق محتمل: إيران والتوجهات التركية نحو إفريقيا، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 16 يناير 2018. https://rasanah-iiis.org/?p=10493 أنظر أيضاً: محمد حسن، مشاريع التوسع العقائدية وثنائية الأرض والممرات البحرية.. كيف يتشابه نظاما تركيا وإيران؟، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 16 يونيو 2020. https://marsad.ecsstudies.com/32832/
14. Zach Vertin, Turkey and the new scramble for Africa: Ottoman designs or unfounded fears?, The Brookings Institution, 19 May 2019. https://www.brookings.edu/research/turkey-and-the-new-scramble-for-africa-ottoman-designs-or-unfounded-fears/
15. محمد أبو الفضل، البعد التركي في علاقة قطر بمصر، صحيفة العرب اللندنية، 6 يونيو 2020.
16. د. محمد عبد السلام، ذئاب الإقليم: الاشتباك مع محاولات السيطرة على «عرب» الشرق الأوسط، مجلة اتجاهات الأحداث، العدد 22 (أبوظبي: يوليو – أغسطس 2017)، ص 6.
17. د. إيمان زهران، توافق الضرورة بين الدول العربية يعيد تكييف الملفات الإقليمية واستقرار الأمن، مجلة آراء حول الخليج، العدد 138 (جدة: يونيو 2019)، ص 88.
18. انظر في ذلك: إسكندر صادقي بروجردي، النخبة السياسية الإيرانية وسوريا: مسارات متوازية نحو الهدف ذاته إنقاذ “محور المقاومة” والحفاظ على العمق الاستراتيجي، سلسلة دراسات، العدد 1 (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، نوفمبر ٢٠١٤).
19. بهاء الأمين، قطر «تشذ» عن الإجماع العربي وتدعم غزو تركيا لشمال سوريا، اندبندنت عربية، 10 أكتوبر 2019.
20. المصدر نفسه.
21. خروج قطر والصومال وجيبوتي ومندوب ليبيا عن الإجماع العربي المدين للتدخلات التركية، ليبيا 24، 9 سبتمبر 2020. https://libya24.tv/news/333328
22. رامي حيدر، لماذا انحازت قطر إلى الحوثيين، مركز أبحاث ودراسات مينا، 10 أغسطس 2019.
https://mena-studies.org
23. المشروع الإيراني ومهمة مليشيات الخامنئي، مركز أبحاث ودراسات مينا، 3 أغسطس 2020.
https://mena-studies.org/ar
24. مجموعة من الباحثين، حزب الله ودوره في الحرب السورية، مركز أبحاث ودراسات مينا، 18 مايو 2020.
https://mena-studies.org//wp-content/up 25. كافي علي، إبراهيم الجعفري ممثل إيران في الجامعة العربية، صحيفة العرب اللندنية، 19 مارس 2016.
26. د. أيمن شبانة، ما الذي تريده إثيوبيا من الصومال، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، 26 أبريل 2020. https://pharostudies.com/?p=4321
27. أحمد عبد الحكيم، الجامعة العربية والتجمعات الإقليمية: تنافس أم تكامل؟، اندبندنت عربية، 2 يوليو 2020.
https://www.independentarabia.com-
28. د. عبد الله بن علي آل خليفة، دور دول مجلس التعاون الخليجي بين حفظ الأمن العربي والمنافسة الإقليمية، مجلة آراء حول الخليج، العدد 131 (جدة: مايو 2018)، ص 52.
29. د. معتز سلامة، دور الكتلة الخليجية «النوعية» في تفعيل العمل العربي المشترك، مجلة آراء حول الخليج، العدد 131 (جدة: مايو 2018)، ص ص 53-54.
30. د. محمد عبد السلام، مصدر سابق، ص 7.